كنتُ أضع الخطط العقلية والعاطفية مع أمي وأحيانا بمشاركة عمتي طرفة وأخوي محمد رحمها الله طوال النهار لنقنع أبي بضرورة سفري لإكمال دراستي الجامعية بأمريكا. كنت أصر على ذلك الرجل الأسمر الوسيم رحمه الله وأساحره واستحلفه بالله وبالذي يرحم جدتي سارة حسينانة وجدي محمد ليوافق على الفكرة، بل تعهدت باصطحاب أخي الصغير عبدالرحمن معي وكان عمره ست سنوات، كما كنت أقضي طوال الليل قائمة أبتهل لله أن ييسر أمر بعثتي. وما هذه إلا لقطة خاطفة من المسودة أو أسرار الكواليس التي لا نطلع عليها العامة عادة عندما نتحدث عن المحطات الحرجة في حياتنا. جاءت رحلتي العلمية في تلك الفترة من فورة النفط، ليتضح فيما بعد أنها كانت من ضمن واحدة من أواخر دفعات الابتعاث إلى أمريكا لمرحلة الطفرة البترولية الأولى، بعد العديد من المستجدات الإحجامية أو التأرجحية في التحولات النهضوية التي احتدمت بالمجتمع السعودي مع النصف الثاني من الثمانينات خاصة مع تقدم موجات التشدد الديني واستشرائها إلى التسعينات. غير أن انحسار الطفرة وملذاتها أو امتيازاتها لم يخطر لي على بال وقتها وأنا أشتري معطفا شتويا طويلا وشالا شالكيا مشجرا من شارع قابل لأدرأ به برد الشتاء المتوقع لشهر ديسمبر بأمريكا. كنت مشغولة بزهو تلك اللحظة الباسمة من مستقبلي العلمي والمستقبل الوطني وأنا أنتقل من بلدي الصحراوي العتيد الذي كنت أشعر أنه مثلي مفعم بشهوة التغير والنهوض، إلى أمريكا معقل الحضارة الحديثة للقرن العشرين أحمل بين جنبيتي ذلك الهدف التنويري الحارق. وكان مما يشد أزر حلمي ويحوله من حلم فردي حرون لصبية صغيرة لحلم وطني شاسع أن رحلتي العلمية لحسن الحظ كانت مصحوبة بسرب من الصديقات والزميلات المحولات من الجامعة الأمريكية ببيروت ليستقر بمعظمنا المقام دون تخطيط مسبق في بورتلاند ويوجين وكرفالوس وسياتل للشمال الغربي الأمريكي. الأيدي التي أضاءت قدري العلمي جاء ابتعاثي رسميا على يد وزير المعارف والتعليم العالي الوثاب وقتها الشيخ حسن آل الشيخ تغمده الله بالمثوبة والرحمة وبمساندة من الأستاذ عبدالعزيز آل الشيخ وأ عبدالمحسن المنقور أحسن الله إليهما الذي كان مؤازرا للطالبات منذ كان ملحقا ثقافية بلبنان. أما أسريا فقد كان لإصرار والدي رحمه الله وسفره من جدة إلى الرياض لملاحقة أمر بعثتي دور محوري غير أن ذلك ما كان ليحدث كما أسلفت لولا مجاهدات ماما في إقناع عبدالله أبوخالد بضرورة التجاسر على ضراوة الواقع لتمكيني من أفضل فرص التعليم العالي المتاحة للقليل من الفتيات السعوديات المحظوظات ما لم يكن مرافقات لأزواج مبتعثين. كانت أمي تؤمن من أعماقها بأنني طفلة محظوظة وإن من ذلك الحظ أن الله قد جعلني بنت التحديات وكنت في موقع آخر قد كتبت كيف أن أمي لم تكن تناديني طوال طفولتي وفي وقت مبكر قبل أن يصل إلينا مصطلح ذوي الاحتياجات الخاصة إلا باسم متحدية. وبمثل هذه البصيرة البعيدة كانت أمي تريد تسليح المتحدية بسلاح سلمي قاطع اسمه العلم. حلم أمي الشخصي كانت مسألة دراستي الجامعية حلم شخصي للسيدة الوالدة نور الهاشمي تريد تحقيقه لنفسها ولكل النساء من خلال شخصي البسيط. كانت تقول لي ولأخواتي نوال ونها ورنية وحسناء “اشربوا من الكأس الذي انتزع من يدي قبل أن يبلغ شفتي”، ولذا فهي لم تقبل بأقل ولم تتنازل في تعليم أي من الإحدى عشرة ما وخصوصا البنات عن أعلى الدرجات العلمية من الباحثة إلى الطبيبة ومن الأكاديمية إلى الأديبة. ولا أنسى ولن أنسى قط أمي وقد أخذتني من يدي الصغيرة في يدها المشغولة بمختلف المهام، ولا زلت بنت ست سنوات حين كنت أستشفي من شلل الأطفال بمستشفى القرطباوي في لبنان وانطلقت بي بتلك السيارة المرسيدس العتيقة عبر ضهور الوحش بالجبل إلى شارع بلس براس بيروت في زيارة إلى الجامعة الأمريكية هناك. مشينا سيرا على الأقدام بالقرب من ذلك السور الممتد على طول الشارع ببنائه المتين والأشجار الصنوبرية المندلعة من جنباته وأمي تردد وكأنها تتحدث عن معالم بيتها بثقة وفخر، انظري هذه هي “جامعة بيروت الأمريكية” إلى أن دخلنا من تلك البوابة العتيقة العالية المواجهة لـ”مطعم فيصل” وهبطنا درجها الطويل الذي يتوسط كل الطرقات المؤدية لمباني الجامعة في الاتجاهات المختلفة التي تعرفت عليها عن ظهر قلب بعد ذلك العهد بما يزيد على عقد من الزمن. واصلنا السير مع العشرات من طلاب وأساتذة في خضرة الحرم الجامعي الذي يزيد عمره على مئة عام (1866م) مرورا بتشبل هوول ونايسلي هول وتلك المكتبة العتيدة المحاذية بمطلاتها الشاهقة لصوت تكسر الرمال على شاطئ البحر. ووسط دهشتي من مكان لم أكن قد رأيته من قبل بل لم أكن قد سمعت به أو علمت بوجوده أوقفتني أمي فجأة وانتحت بي جانبا على أحد المقاعد المتناثرة بين المباني، وضعت عينها في عيني وهي تقول لي بالكثير من الجدية والاهتمام وكأنها ستفضي لي بسر خطير أو تستحلفني، اسمعي بعد ما تتخرجين من المدرسة ستأتين للدراسة بهذه الجامعة وعندما تختمين دراستك الجامعية هنا تعودين إلى وطنك مرفوعة الرأس للعمل بجامعة الملك سعود لتعلمي هناك. أطالت النظر لخليط الانبهار والاستغراب المطل من عيوني ثم قالت وكأنها تحدث نفسها عندها يصير كل البنات السعوديات جامعيات. وبطبيعة الحال لا أخال أنني وقتها قد فهمت مغزى كلامها على وجه الدقة ولا ما معنى جامعة ولا دراسة جامعية، ولم يكن ثمة مكان بجامعة الملك سعود للبنات بعد، لكن الفتيل من لحظتها تعلق بالضوء. المقال القادم بإذن الله طالبات سعوديات بأمريكا نهاية السبعينات وطريق غير مطروق كقصيدة الشاعر الأمريكي روبرت فروست. Fowziyaat@hotmail.com Twitter: F@abukhalid