المشهد مهيب، عشرات الألوف يملأون شوارع عاصمتهم وساحاتها احتفالاً بذكرى لحظة شكلت عنواناً لأفول مرحلة وبداية أخرى في حياة البشرية جمعاء. إلى المعاني السياسية العميقة لتلك التحولات العاصفة التي لا تزال تداعياتها مستمرة، ثمة صورة حضارية تجلت ليلتها في برلين حين أصغت الحشود المؤلفة لموسيقى بيتهوفن وسمفونيته التاسعة متابعةً عرضاً خلاباً حمل عنوان «حدود الضوء» احتفالاً بمرور ربع قرن على سقوط (والأصح إسقاط) جدار برلين، كأن الجموع الغفيرة صارت أذناً واحدة ترهف السمع لموسيقى خالدة. المرء المتابع لوقائع ما يجري عبر بثّ حيّ جعل كوكبنا أصغر مما هو عليه، لا يملك سوى عقد مقارنة بين صورة تأتيه من المقلب الآخر غير البعيد وأخرى تعيشها يومياً بلاده الغارق معظمها في بحور الدماء والدموع. هل نظلم أنفسنا حين نقيم مقارنة مع دولة متقدمة مثل ألمانيا أم نظلم الألمان؟ لمَ، ألم تطحن الحروب ألمانيا طحناً؟ ألم تعصف بها وبالعالم نازية خرقاء قاتلة؟ ألم تُدمَر معظم المدن الألمانية دماراً منقطع النظير؟ ألم تُفرَض عليها شروط هزيمة نكراء؟ ألم تُقسّم برلين نفسها بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية قبل تحوّلها عنواناً لحرب باردة شطرتها نصفين وأقامت جدارها الفاصل بين أبناء الشعب الواحد؟ كل هذا جرى فقط قبل سبعين عاماً. في أقل من قرن من الزمان نفضت ألمانيا غبار الحرب والهزيمة وأعادت بناء ما جرى تدميره وتوحيد ما تم تقسيمه، فيما كانت بلادنا الخارجة لتوّها أو بعد حين من تحت نير الاستعمار المباشر تؤسس لفشل ذريع في إقامة الدولة الوطنية المرجوّة بفعل أسباب باتت معروفة للقاصي والداني، وفي مقدمها فساد الأنظمة الحاكمة وتخلفها واستبدادها فضلاً عن مطامع الدول الكبرى وأحابيلها. لسنا في صدد استعادة وقائع التاريخ الدامية، هل كانت يوماً في بلادنا غير دامية؟ جلّ ما نرمي إليه الإشارة إلى كيفية احتفاء الشعوب بإنجازاتها وبمبدعيها الكبار، وكيف تقيم الميادين والحدائق والساحات والأنصاب على أسماء فنانيها العظام، وكيف تحفظ إرثها الثقافي والحضاري وتحرص عليه وتحميه بأشفار العيون، فيما بلادنا تغتال تاريخها وحاضرها ومستقبلها صبحاً ومساء، ولئن كان الحزن على البشر لا يضاهيه حزن أو أسى، فإن ثمة جريمة مروعة تُرتكَب إلى جانب المجازر بحق الأبرياء تتمثل في اغتيال تاريخ شعب وتراث أمة، ثمة مبان تُقصَف وتُهدَم عمرها مئات السنين، ثمة شواهد تُباد بعد أن تعاقبت عليها أجيال وأجيال تاركة بصماتها وطقوس عيشها، ثمة آثار تُسرق وتُنهب وتُباع في الأسواق السوداء، جميعنا يعرف ما الذي حلَّ بجزء كبير من آثار العراق وكيف تم تهريب آلاف القطع النادرة بواسطة مافيات منظمة أو نظامية، وهنا لا يمكننا البتة تبرئة الدول التي ترضى أو تغض النظر عن تلك المافيات، ثم تعمد لاحقاً إلى عرض تاريخنا المنهوب في متاحفها الخلابة، وقبل هذا وذاك لا ننسى كم من المثقفين العرب في غياهب السجون أو في وحشة المنافي. حين يصمت عشرات الألوف في حضرة موسيقى بيتهوفن فيما يتعالى عندنا زعيق كل اثنين حتى لو اختلفا على جنس الملائكة فيخوّن واحدهما الآخر وينحره مجازاً على أمل أن يفعل لو استطاع إلى ذلك سبيلاً، لن نستغرب أن يستحوذ الهمج على عقول الشباب ليعودوا بهم قروناً إلى الوراء، إلى كهوف الظلم والظلام، فهل يأتي حينٌ من الدهر ندركُ فيه أن ماضينا ليس مجرد سيف يذبح وينحر، بل فكر وفلسفة وشعر ورسم ونحت وموسيقى وشتى أنواع الإبداع التي ما لم ندرك قيمتها وأهميتها ودورها في توسيع الفارق بين الأنسنة والحيونة، سنبقى محاصرين بجدران الجهل والتخلف أشبه بمحمية وحشية لكائنات منقرضة. فهل نحلّق يوماً خلف حدود الضوء أم تبقى المسافة بيننا وبقية الأمم وسع حدود الضوء... وليعذرنا الألمان على ظلم المقارنة.