يبدو ظاهرياً أن أسطورة مجتمع المباشر live كما يطلق عليها في علم الإعلام الحديث، تنهض في المقام الأول على إلغاء دور الوسيط. والاعتراف بمكانة وأهمية المتلقي. إذ لا يمكن إرسال رسالة إلى (لا أحد). ولذلك تأسس مفهوم التواصل التقني الأحدث مع المتلقي وإنشاء الرسائل الإعلامية على خدعة كبيرة توهم المشاهدين بأن ما يتلقونه الآن غير خاضع للرقابة ولا للتوجيه. وأن الرسالة المبثوثة تصلهم بشكل خام كما تحدث في التو واللحظة. وقد كان لظهور محطة الـ (سي إن إن) عام ١٩٨٠ أثره في تعزيز هذه الخدعة التي بلغت مداها إبان الغزو العراقي وأحداث أخرى. فهذه المحطة تستطيع بما تمتلكه من وسائل اتصال متقدمة أن تصل إلى موقع الحدث بسرعة وأن تنقله طازجاً وهو في حالة الحدوث. لدرجة أن العالم استسلم حينها لتلك الرؤية الأحادية التي لا ينافسها فيها أحد. بعد أن أصبحت القناة مرجعاً إخبارياً ومعرفياً. حيث تم إلغاء فكرة التعدّدية الإعلامية المنبثقة أصلاً من التعدّدية الاجتماعية والثقافية. وبالنظر إلى انتصار الولايات المتحدة الأمريكية على الاتحاد السوفيتي واستحقاقها الواضح للهيمنة على العالم وفرض قطبيتها الأحادية، من خلال العولمة التي تعادل الأمركة، انتفى وجود الإعلاميات المتعدّدة. وصار مفهوم الوجود كله يُقدم من خلال نظرة المختبر الأمريكي. حيث انساق العالم وراء تلك الرؤية داخل قرية كونية لا تقر التنوع الثقافي ولا تأبه لتنوع الرؤى الإعلامية، بقدر ما تفرض تصوراً أمريكياً للحقائق والوقائع والموضوعات يقوم على أسطورة النقل الحي. وبمرور الوقت أتقنت الدول الأخرى لعبة البث المباشر، فانفتح الفضاء الإعلامي على التنوع والتعدّد. وهو انفتاح لم يتحقق إلا من واقع الزحزحة السياسية. فالنزاع السياسي يولّد بالضرورة نزاعات إعلامية، ويعيد فتح ملف التنوع الثقافي. وضرورة الاتفاق على تعدُّدية الرؤية للعالم. وهذا هو ما حدث بالفعل حيث تم التوقيع في اليونسكو عام ٢٠٠٦م على معاهدة احترام التنوع الثقافي، وتنظيم ذلك التنوع بشكل معياري داخل المجتمع الدولي. الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على الخطاب الإعلامي. ولا شك أن عودة الروح لروسيا، وبروز دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين) قد أحدث تنوعاً في سوق الإعلام، بالقدر الذي أحدثه في المدارين السياسي والاقتصادي. حيث تم اقتراح قرية التنوع الإعلامي، عوضاً عن قرية الرؤية الأحادية الشمولية. وهي انزياحات ناتجة بالدرجة الأولى عن إعادة ترتيب موازين القوى. فالرسالة المقدسة التي كانت ترسلها الـ (سي إن إن) بدون أن يطالها أي تشكيك، صارت محل مساءلة نتيجة وجود عدد هائل من القنوات التي تقترح رؤية مغايرة للحدث. لم تعد مفاهيم مثل الديمقراطية والإرهاب وحقوق الإنسان تُقدم من خلال وجهة النظر الأمريكية وحسب، بل صارت لكل دولة وكل أمة وكل ثقافة وجهة نظرها في هذه المفاهيم. بما في ذلك القنوات العربية التي أضافت بعداً تعدُّدياً مغايراً. حيث صار بمقدور أي قناة أن تنقل الأحداث من جميع أنحاء العالم من خلال البث الحي. وأن تثبت على شاشتها كلمة (live) طوال فترة البث. بمعنى أن احتكار الحقيقة لجهة ما قد صار شيئاً من الماضي. إن وجود لافتة (مباشر Live) على الشاشة يُراد منها الإيحاء بأن ما يتم بثه هو المادة الخام للحدث. وهو الرسالة بكل مضامينها. وأن القناة تحترم وعي المتلقي وتتواصل معه بأرقى وأدق وسائل الاتصال. ولكن تحليل شفرات تلك الرسالة يشي بما هو مغاير. فزاوية الرؤية لكل قناة تختلف عن غيرها إلى درجة التضاد، فالإرهابي بالنسبة لقناة ما هو استشهادي بالنسبة لقناة أخرى. وهو الأمر الذي يلعب عليه إطار الصورة، وبناء الحدث الإعلامي، ووجهة نظر المحلّل المختص، ومدة البث، والعنوان الذي تتم تغطية الحدث تحته وهكذا. إن خدعة البث المباشر، متأتية من صُلب النظرية الديمقراطية، وضرورات المجتمع التواصلي التفاعلي المعاصر. وهي لا تكمن في بساطة النسخ الآلي للحدث، بل في تحويل ذلك الحدث عن مجرياته ووقائعه. بمعنى أنها رسالة تقوم على مخاطبة وعي ولا وعي المتلقي وذاكرته وغرائزه ضمن محمولة إعلامية بالغة التعقيد. وذلك اعتماداً على البعد الثقافي والاجتماعي في الثورات الاتصالية. حيث لا تتنازل الأيدلوجيا عن توظيف أي مكتسب إنساني. بل تقتحمه وتستخدمه بما يؤدي أغراضها. وهذا هو سر التنوع في الإعلاميات، التي تنادي بأفق منفتح متعدّد لرؤية العالم فيما هي تتصارع بشراسة بتكثر أساطير البث المباشر. ناقد