كان جارهم الشيعي يضيء إنارة الشارع من بيته فجراً لأن الإمام السني سيمر من هنا في طريقه إلى المسجد، هكذا غرد شاب سعودي على «تويتر» راويا حكاية جده الإمام مع الجار الشيعي النبيل. إن هذه القصة القصيرة تختصر الفارق الاجتماعي والفكري والنفسي بين الماضي والحاضر، بها تتبين مستوى الحالات التصعيدية الطائفية والتي لم تكن شيئا مذكورا قبل أربعة عقود من الآن. لم يكن الانتماء إلى الطائفة غاية بل كان وسيلة تعبدية عادية، وإنما الغاية في الاندماج والانخراط مع المجتمعات في تسيير الرزق والسعي في الأرض. كانت المناطق المأهولة بالشيعة في السعودية منسجمة أشد الانسجام، بين الجيرة والشراكة في التجارة والتآزر في المصائب والتعاون على الدنيا بأفراحها وأتراحها.. هذه هي بلادنا العظيمة. مع المد الأصولي ووفود الأفكار الإحيائية للمندثر من قديم التعاليم، وصعود الصوت الزاعق بالنظريات الاصطفائية من دون العالمين، ومع المد الأصولي بالتزامن مع الثورة الإيرانية وتصاعد الخطابين الصحويين السني والشيعي مع كل ما مضى أصبح المد الطائفي مخيفاً، وآية ذلك أن التعايش بين السنة والشيعة أجهز عليه ليس في السعودية فحسب، وإنما في دول الخليج ولبنان وكل دول العرب والمسلمين بين هاتين الطائفتين. لطالما شبه المفكرون الصراع السني والشيعي بالصراع البروتستانتي - الكاثوليكي، والذي بلغ ذروته في القرن السابع عشر من خلال حرب الثلاثين عاما بين عامي 1618 و1648، وهو صراع فجر أوروبا من أطرافها وأثر فيها ومزقها؛ نشبت الحرب في البداية كصراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهت كصراع سياسي من أجل السيطرة على الدول الأخرى، بين فرنسا وهابسبورغ. كانت هذه الحرب ولا تزال ندبة على جبين القارة الأوروبية والتي قادت فيما بعد أسس التسامح وشحذت مفاهيم التنوير والإصلاح الديني وتبلورت مع أحداثها الضارية أسس العلمنة والليبرالية والفردانية. هذه المقارنة بين مذهبين إسلاميين وبين اتجاهين مسيحيين ربما نستفيد منها في تحاشي الصراعات الدموية التي تبدأ من خلال الضخ الديني ويساعد على إذكاء ناره رموز التطرف في الطائفتين ممن يستخدمون العبارات المقدسة من أجل تلويث الواقع وجر الآمنين إلى تخريب واقعهم وعصيان قادتهم والانغماس في الأحقاد والتقيد بأغلال الإرث القديم. بعد حادثة الأحساء الأخيرة التي وقعت يوم الثلاثاء 4 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي زعقت القنوات المناوئة والصحف المعادية بنبرة الفتنة، بينما هذه الحادثة الإرهابية نقرأها على أنها استهداف لسعوديين مواطنين، وهي اعتداء على الإنسان، ومن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، هذه هي النبرة الصائبة التي تجعلنا مندمجين مع المواطنة المدنية الحقة، حيث لا ثنائيات تتصارع، ولا يافطات طوائف تتنافس، وإنما هو الإنسان بمعنى الكلمة، محققا المواطنة الكاملة، ومقتل سعودي في الأحساء أو القطيف أو بريدة أو الرياض أو جدة كله مصاب جلل بنفس المستوى المؤلم العميق. حين نصل إلى هذه النبرة المدنية في توصيف الحدث فنحن قد بدأنا نتجاوز التصعيد الطائفي الذي غرقنا به بسبب رموز الضلال الذين أغرقوا المجتمع الواحد بالكراهية، وأخص بذلك الرموز المتأثرين بالإخوان المسلمين، وكذلك بعض التيارات التي كان لها سطوتها في الثمانينات وهي ريادية في تأميم التبديع وتعميمه بين المسلمين. لا بد من البدء بتصحيح مفاهيم التدين لدى المسلمين جميعاً، بحيث يتحول موضوع الدين إلى مستوى ذاتي لا يمتد إلى غيرك، وأن تتوقف المناوشات الآيديولوجية، فالدين تجربة ذاتية خاصة، والعمل في هذا المجال يقتصر على المؤسسة الرسمية بما يحتاجه الناس، والالتفات إلى الأفكار التنموية والمشارب العلمية، والتطور المهني والفني والجمالي. إن مساحات الحياة ومجالات الإثمار فيها أكبر من المفاهيم الطائفية وأوسع من أغلال الرموز المخادعة المتلاعبة بعواطف الناس، لا بد من إيجاد نمط من التدين يختلف عن الذي ضخّ في العقول مع الموجات الأصولية المهترئة، وذلك من خلال «فردنة التدين» حينها يخف هذا التأزيم المزعج في بلدان المسلمين جميعا. كلما كانت الأفكار مأزومة كان الواقع مأزوما، وهذا الذي جعل ودياناً من الدماء تسيل في هذه المناطق المحيطة. في القرن الرابع الهجري كان الفيلسوف العلامة المسلم أبو الحسن العامري يقول: «الدين للإنسان.. وليس الإنسان للدين»، أما رموز التصعيد، أولئك المرجفون، إنهم ممن صح فيهم قول القائل: «في أفواههم الله، وفي أعضائهم الشيطان»