أزعم أنني كنت مثل كثيرين غيري، نتوجس في أنفسنا خيفة، آملين أن نكون على خطأ في تقديرنا ومخاوفنا، من حدوث أمر مشابه لما حدث يوم الإثنين الماضي 10 محرم 1435 هـ (3 نوفمبر 2014م) في القرية الوادعة «الدالوة» في أحضان الواحة الرؤوم الطيبة الأحساء. تلك الأحساء التي أرضعت أهلها من نمير مائها وأطعمتهم من عذوق نخلها فتطبعوا بطباعها وورثوا عنها سماتها الحادبة وملامحها السمحة. كان الاحتراب الطائفي والقتل على الهوية المذهبية في بلدان لا تفصلنا عنها إلا بضعة آلاف من الكيلومترات يهدد بنقل لهيب نيرانه إلينا في أي لحظة. ولم نكن بطبيعة الحال نفتقر إلى الأرضية الخصبة والحواضن الخفية و«الخلايا النائمة» والقنابل الموقوتة التي لا يكبح جماحها ولا يخفف من غلوائها إلا وجود الدولة القوية المتماسكة، وإحكام سيطرتها على مقاليد الأمور ومفاصل السلطة لحسن حظنا جميعًا. وفي هذا الشأن، لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة (وإن كنت لا أنفيها بشكل مطلق) فيما يتعلق بظهور الحركات الأصولية المتشددة على السطح بعد اندلاع نار «الربيع العربي»، وسقوط أو تخلخل الحكومات المركزية القوية في البلدان التي طالتها تلك النار. كل ما في الأمر أن تلك الحركات الأصولية في أقصى صورها قسوة وتوحشًا، كانت كامنة في الظلام تترقب اللحظة الملائمة والظروف المناسبة لفرض هيمنتها وبسط أيديولوجيتها بكل ما تستطيعه من سبل. لقد وقع ما كان يُخشى من وقوعه، وحدث ما بدا أن لا مناص من حدوثه. إذاً، وليس بغير ذي دلالة أن يكون من بين أفراد العصابة الإجرامية التي خططت ونفذت للهجوم الجبان أحد العائدين، مما اصطلح على تسميته بـأماكن النزاع في الدول المجاورة. ففي ذلك مؤشر خطير على ما يمكن لأولئك «المارقين» القيام به من أدوار خطيرة سيكون لها إن لم يتم وأدها في مهدها آثار جسيمة لا تحمد عقباها على الإطلاق. لست بحاجة لتكرار ما قيل وكتب آلاف المرات حتى الآن، من أن ما حدث في الدالوة واستشهاد عدد من الضحايا (بما في ذلك شهيدا الواجب)، ووقوع عدد كبير من الجرحى، كان جريمة بشعة تذهب إلى الحد الأقصى من مناقضة المبادئ الإنسانية وتعليمات الإسلام القويم الذي تزعم تلك الشرذمة القليلة أنها هي الصوت الممثل له. ولكن ما يحتاج للتأكيد والإصرار عليه هو أن يتم استغلال ما حدث، وردة الفعل المتزنة والحكيمة من أهالي الدالوة على وجه الخصوص، ومحافظة الأحساء عمومًا، وما ظهر واضحًا للعيان من التآزر والتكاتف والتعاطف من مختلف أنحاء المملكة ضد كل ما يمكن أن يقود أو حتى يقترب من شفير احتراب طائفي كان المتشددون وما يزالون يمنون أنفسهم به. المهم والضروري الآن، في هذه اللحظة التاريخية المفصلية في تاريخ الوطن، أن يتم توظيف ما حدث بكل ما تبعه من مؤشرات إيجابية لتفويت الفرصة على أي متشدد، سواء هؤلاء الذين يحملون الأسلحة ويزهقون الأنفس، أو أولئك الذين ما فتئوا يحملون أسلحة لا تقل فتكا وهتكا من تكفير وتبديع وإخراج من الملة، والتأسيس عليه لسن قوانين تجرم الطائفية بشكل قاطع لا لبس فيه من أي طرف كان. لقد سمعنا أصواتا محسوبة للأسف الشديد على فئة «صناع الرأي»، عقب الحادثة مباشرة تنفخ في نار الاحتراب الطائفي، وتحمل أتباع طائفة ما أوزار ما وقع أو يقع من حروب واقتتال في بلدان أخرى، على الرغم من أن أتباع هذه الطائفة بعينها قد أثبتوا وما زالوا يثبتون (وليس أدل على ذلك مما حدث في الدالوة) أن ولاءهم وانتماءهم هو لهذا الوطن الذي يقيمون فوق أرضه ويستظلون بسمائه.