الممارسة الثقافية ليست ترفاً يمارس في الفائض من الوقت، وهي ليست مهنة الهواة الهائمين في الأودية، بل باتت إحدى الضرورات الحضارية التي أدرجتها الأمم المتحدة في المادة 15 من ميثاق حقوق الإنسان (من حق كل فرد أن يشارك في الحياة الثقافية، أن يتمتع بفوائد التقدم العلمي وتطبيقاته، أن يفيد من حماية المصالح المعنوية والمادية الناجمة عن أي أثر علمي أو فني أو أدبي من صنعه، تراعي الدول الأطراف في هذا العهد اتخاذ التدابير التي تضمن صيانة العلم والثقافة وإنماءها وإشاعتها). على المستوى المحلي جميعنا نعلم بأن الفضاء الثقافي لدينا يعاني من الشحوب أن لم يكن من التصحر، هذا رغم أننا نعاني من مشكلة فكرية عميقة مع تيارات التطرف وتحزبات العصبية فالفعل الإنساني إذا لم ينطلق من وعي حضاري تحول إلى خراب، رغم هذا لم نقم بتوظيف النشاط الثقافي في مواجهة مد التوحش الناتج عن غياب كل ماهو جميل وسام وخالد وفني عن فضائنا وعن مدننا وعن مدارسنا وعن مياديننا. النشاط الثقافي بات مطلباً قومياً ولابد أن يحظى وبزخم ودعم من مواطن صناعة القرار عبر وزارة مستقلة وأنشطة عديدة تستثمر لمواجهة الطروحات المتطرفة التي عصفت بالمكان. لأننا مع الأسف بتنا نجد أن الأنشطة الثقافية باتت بحد ذاتها هدفاً لنيران الهجمات الظلامية. فكيف يتحول معرض الكتاب سنوياً لمضمار للنزال والكر والفر بين البعض من جهة وبين الرواد والجهات التنظيمية من جهة أخرى؟! لماذا مسرحنا وهو (أبو الفنون جميعها) مهمش يكابد غياب الدعم وأسقف الحرية والأكاديميات المهتمة ؟عدا اجتهادات تقوم بها مشكورة أمانة منطقة الرياض بين الفينة والأخرى، على حين أننا نعلم أن أمة بلا مسرح على مشارف القرن الواحد والعشرين تعبر عن اختناق حضاري. الحفلات الموسيقية لدينا تستبدل بمقاطع لتحطيم العود في المخيمات الصيفية، وهو المشهد المتوحش الذي لم يسجل لنا التاريخ على الإطلاق شيئاً يشبهه، تلك الصنعة الحرفية الرقيقة الدقيقة، رهافة الخشب الثمين يحتضن تجليات الصوت وأصدية النغم الذي يتماهى مع الكون بدقته وانسجامه تنتهي بمشهد تحطيم العود وتناثر شظاياه وسط زعيق يثير الفزع يشبه زعيق رجل الكهف فوق فريسته. السينما باتت أحد (التابو) الحمراء التي نضيفها لقائمة محظوراتنا اللامتناهية، ضمن ازدواجيتنا المعروفة فالبيوت الآن أصبحت تمتلك صالات عرض سينمائي باذخة، لكننا نرفضها كجزء من النشاط المدني رغم أن ثقافة الصورة هي التي تتحكم بمسارات الرأي العام حول العالم. الثقافة لدينا بحاجة إلى التفاتة جادة ودعم على مستوى المؤسسات والأكاديميات والخبرات الإدارية والدعم المادي واللوجستي، إضافة إلى منحها حيزاً من الحصانة والحماية الشرعية ضد هجمات التصحر. طرح الدكتور سلطان البازعي رئيس جمعية الثقافة والفنون في االمملكة، في مقابلة له الأسبوع الماضي مع برنامج الثامنة قراءة احترافية وشمولية للمشهد الثقافي سواء من ناحية المعوقات أو الحلول، فتحدث عن توأمة المشاريع الثقافية مع الجهات الرسمية والقطاع الخاص، تحدث عن أهمية حيز الحرية الذي يجب أن يتاح، وأكد قبل كل شيء على أهمية دعم القرار الرسمي لمشروعنا الوطني الثقافي. في النهاية أضم صوتي إلى صوت العديد من الزميلات والزملاء المعنيات والمعنيين بالشأن الثقافي، بأن الثقافة ليست فقط حقاً يقدم للمواطن.. ولكنها أيضاً أحد الفضاءات المضيئة الرحبة التي نشجرها ضد هجمة التصحر والهمجية والتطرف. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net