«ظريف وكيري» عنوان مسلسل كرتوني لا ينتهي على شاكلة «توم وجيري» يجسد العلاقة بين إيران وأمريكا في العقدين الأخيرين، فلا توم أكل جيري ولا جيري نجا من توم لأن هناك دوماً حلقة كرتونية جديدة. يزمجر توم تارة ويهدد توم، وتارة أخرى يستهزئ توم بجيري، والهدف في المحصلة النهائية امتاع العالم بمشاهد المطاردات البهلوانية. فالمحادثات الأمريكية متواصلة حلقاتها في أماكن مختلفة ولعقود طويلة ولم تنته ولم يتم التوصل لشيء، أي أنه يمكن تسمية هذا النوع من المحادثات بالامتاع السياسي أو السياحة السياسية، فأحيانا تصل عقدة المحادثات إلى منتهاها بتهديدات متبادلة توقف أنفاس متابعيها، وأحياناً أخرى تحقق انفراجات تخلق انطباعاً بأنه لا يوجد خلافات بين الطرفين. أمريكا كانت ولعقود طويلة القوة العظمى في العالم، والآمرة الناهية في كل شيء، واليوم، ونتيجة للحروب المتواصلة، والانهيارات الاقتصادية، هي إحدى الدول العظمى في بعض الأشياء، غير أن بعض الساسة الأمريكيين غير قادرين على التكيف مع تغيرات العالم، وما زالوا يعتقدون، ويتصرفون على أنهم ما زالوا القوة العظمى في العالم، وهم يعيشونه ويحاولون إيهام بقية الدول به، فالتهديدات الأمريكية ترتفع صوتاً ولا يدعمها عمل، والأسوأ هو أنهم يتصرفون مع الدول الصغيرة التي صادقتهم، وحالفتهم، وصدقتهم بعقلية الماضي وبلا تردد، ويتصرفون مع الدول القوية بعقلية المستقبل وبكل تردد. ولذلك فالسياسة الأمريكية هذه الأيام تتبع أسلوباً مطاطياً يتمدد أحياناً لأقصى مداه محدثا رعبا تدعمه تهديدات تبدو وكأنها ستشعل المنطقة حربًا، وتتقلص أحيانا أخرى بما يشبه التقلصات المعوية تاركة العدو والصديق في حيرة من أمرهم. والمؤكد هو أن عدم وضوح الرؤية الأمريكية وتقلباتها السياسية جعلتها تبدو بدون أصدقاء حقيقين، وأصبحت علاقاتها حتى مع أخلص حلفائها عرضة لتقلبات مشابهة. لقاءات كيري ظريف لا تتوقف، وأعداد مجموعات الدول المشكلة للتفاوض مع إيران تتغير باستمرار كنتائج مباريات كرة القدم، يخرج عضو ويدخل الآخر، ووكالة منع انتشار الأسلحة النووية، التي قررت أمريكا دعمها وربطها بمصالحها العليا منذ أواخر السبعينات، تعمل ككومبارس متغير الأدوار حسب أجواء هذه المباحثات المارثونية. ولكن المؤكد هو أن إيران ماضية في تخصيب اليورانيوم لصنع سلاح ذري وكل يوم محادثات يمر تزداد قرباً من تحقيق هذا الهدف، وأمريكا لا تملك إلا عصى ضعيفة وحزمة جزر تتناقص كل يوم، أو لم تعد مغرية لدولة الملالي المغامرة. فالحكومة الإيرانية حكومة دينية جهادية لا تختلف كثيراً في عمق أفكارها عن الجماعات الجهادية المتناثر في المنطقة إلا في كونها دولة، وهي تعد النموذج الملهم الذي احتذته داعش في تكوين دولتها في الرقة باختلاف بسيط هو أنها استبدلت المرشد بالخليفة. بل إن هناك إشاعات قوية بأن داعش تأسست على النمط الإيراني وأن ذلك لم يكن محض صدفة. إسرائيل التي مارست وتمارس الابتزاز الداخلي لأمريكا بهدف توجيه سياساتها الخارجية في المنطقة هددت بضرب إيران منفردة إذا لم يفعل الأمريكيون ذلك، ليكتشف الأمريكيون، الذين ضاقوا ذرعاً بكذب نتيناهو ومماطلاته، وتجاوزاته التي لا تعرف الحدود، أدركوا أن نتيناهو أجبن مما يحاول تصوير نفسه، فأعطوه الضوء الأخضر، لكنه تراجع واكتفى بتقاسم كعكة المنطقة مع إيران، فالطغمة العسكرية في دمشق أقنعته بأن زوالها وليس وجودها هو ما سيشكل خطراً حقيقياً عليه، لأن من يخلفها لن يقدم الضمانات ذاتها له، ومصداقاً لذلك قدموا له عبر أمريكا سلاحهم النووي كعربون ثقة. وما دام النظام السوري الحليف الأقوى لإيران، فمن المؤكد أن خطر السلاح النووي الإيراني سيكون مثل خطر السلاح الكيماوي السوري موجه لابتزاز العرب والمسلمين وليس لإسرائيل، فلا مانع من التعايش معه، وهذا سيفتح الباب لتقاسم المنطقة العربية نوويا مع إيران. الأمريكيون أمام خيار لا يستطيعون حتى مجرد التفكير بالإقدام عليه، وهو الهجوم على إيران دون ضمانات من الصين وروسيا بعدم التدخل. وما دامت روسيا والصين، تلعبان دور الكلب الشرس الضخم النائم الذي يحرس توم من جيري لم يعط ضمانات بعدم التدخل بدعم إيران بالسلاح، وقد يسعى لتوريط أمريكا في حرب لا نهاية لها مع نظام يرى في موت شعبه فائدة له، فدخول أي حرب مع هذا النظام تعد مجازفة غير محمودة العواقب. وأمريكا، الدولة البراقماتية التي تعتمد منطق الاحتمالات في حساب الربح والخسارة لا يمكن أن تخوض حرباً تكون فيه كفة احتمالات كسبها بخسائر محدودة جداً. المشهد الذي نراه اليوم في العراق وسوريا سواء من حيث التحرك العسكري أو الدبلوماسي مشهد كرتوني فعلاً. أمريكا والحلفاء لهم الجو، وعدوهم إيران يشاركهم الأهداف ذاتها على الأرض، فقد ظهر فجأة من القمقم، أو ربما نستطيع القول هناك من فتح القمقم، عدو مشترك جديد لخبط الأوراق من أول وجديد، وربما كان ظهوره ضروريا ليمنح بعض اللاعبين الأساسيين فرصة لتغيير مواقفهم. فداعش أقرب ما يكون لفأر كبير خاف منه توم وجيري على حد سواء فتحالفا فجأة ضده وتركا عداوتهم التقليدية الصورية التي كان معروفاً سلفاً أن لن تفضي بانتصار أحدهما، فلو انتصر جيري أو توم توقف المسلسل الكرتوني. دول الخليج أشبه بسيدة البيت الطيبة المسالمة في المسلسل، فهي متأذية من القط والفأر على حد سواء فهما يتطاردان في منزلها ويكسران الأشياء الثمينة فيه، ولكنها لا تملك إلا مكنسة تلاحقهم بها وترغب كثيراً فيما لو تطاردا بهدوء حتى ولو قدمت لهم بعض الجبن والحليب، وعندما فتحت الباب لطردهما للحديقة الخارجية المهدمة أصلاً فؤجئت بوجود الفأر الضخم فكان الأفضل هو احتواء من في الداخل على فتح الباب لمن في الخارج. أجواء اليوم في العراق تذكر بأجواء المنطقة أيام الانتداب البريطاني، فالعراق تحت الانتداب الأمريكي بكل ما تحمله الكلمة من معنى ولكنه فعلياً تحت شبه احتلال إيراني يذكر بعصابات الأرقون والهجانا في فلسطين، وأمريكا تساوم إيران في مفاوضاتها معها حول التخصيب بمكافأتها بأمور لا تملكها أصلاً، مثل مكافأة بريطانيا عصابات اليهود في فلسطين بمنحها وطناً لهم، فهي تعرض عليها المشاركة في حرب المتطرفين، دون تحديد لمن هم المتطرفون، مقابل منح وكالة الطاقة الدولية صلاحيات رقابة أكبر على عمليات التخصيب فيها. أما إيران فتدرك جيداً أن أمريكا لن تقدم على حرب معها حول هذه المسألة لأسباب ذكرناها آنفاً وتتعلق بوجد قوى عظمى أخرى لها شهية مفتوحة للنفط الإيراني والعراقي، وعقود البناء، وغيرها من أمور استراتيجية، وهي متواجدة أصلاً في الأرض في العراق ولذا فلن تقدم لأمريكا إلا ما يحفظ ماء وجه الرئيس ووزير خارجيته أمام ناخبيهم. أما الدول الأخرى بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا فتتسابق لإنهاء الحصار على إيران لأنها كعكة اقتصادية لا يمكن تركها للصين وروسيا وحدهما. فثمن العولمة والتطورات التقنية هي تسارع عالم التطورات السياسية مثل جهاز الكمبيوتر بحيث لا تجدي القراءة التقليدية نفعاً في التنبوء بأحداثه. أما قتال داعش فهو مثل «لعبة قولف» تتسلى بها الأطراف حتى تتضح بشكل جلي أحوال الطقس الاستراتيجي في المنطقة. والخاسر في كافة الأحوال هم العرب الذين تمزقهم الانقسامات وتتلاعب بهم الطائفية.