الشيخ محمد بن إبراهيم البواردي من الرعيل الأول لقضاة السعودية، وكان إلى ذلك مشهورا بحب الأدب والشعر ورواية اللطائف. من ذكرياته حين كان قاضيا بشرق السعودية - كان هناك إمام مسجد يصلي فيه قليل المعرفة بالنحو - فدخل المسجد يوما وإذا الإمام يقرأ «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ» بتنوين سيناء، فقال له الشيخ: يا فلان من طور سيناء بفتح الهمزة لا تنوينها، لأن اسم سيناء لا ينصرف، فلا يجوز تنوينه، فشكره الإمام، وبعد أيام دخل عليه الشيخ وهو يقرأ من سورة البقرة «إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا» بتنوين صفراء، فقال له الشيخ يا فلان قل بقرة صفراء فاقع لونها، بضم همزة صفراء دون تنوين، لأن اسم صفراء لا ينصرف، فلا يجوز تنوينه، قال الشيخ: فضحك الإمام علي وقال يا شيخ الغلطة الأولى في جبل، أنا معك الجبل لا ينصرف، أما الثانية فهي في بقرة، فكيف تقول إن البقرة لا تنصرف؟ البقرة ما تنصرف؟! الله يهديك يا شيخ، لو غيرك قال هذه ما «شرهت» عليه، أي ما عتبت عليه. كما جاء في كتاب «من طرائف العلماء المعاصرين» لعبد الرحمن الرحمة. لما قرأت هذه الحكاية، تذكرت كيف أمسى التعالم في واقعنا أكثر ضراوة. تعالم المتعالمين بالأمس كان موضع تندر وسخرية، بل وكتب الأوائل في ذلك مؤلفات وقال الشعراء الشرد السائرات سخرية من هذا السلوك. الآن، صار التعالم، وعدم تكليف النفس بالبحث والتقصي، قبل فتح الفم بالحديث، أو «طقطقة» الأصابع على «الكيبورد» أسلوب حياة عاما. زاد الأمر خبالا سهولة النقر على محرك غوغل أو غيره، وتلقف كل ما يلقيه المحرك من صفحات، دون فحص ولا تمييز، لأن الناقر على غوغل فاقد أصلا للقدرة على التمييز. نحن لسنا أمام حالة تعالم كما وصفها الأوائل، بل أمام «طفرة» سيئة تضيف إلى التعالم، التعالي على البحث والتقدير للعلم، والسرعة والاستهانة، إنه انقلاب سلوكي تربوي جد خطير. تخيل لو كنت في مجلس وبه عالم من علماء التاريخ أو الاقتصاد أو الأديان، أفنى عمره وهو يحوم في هذه الأجواء، وبجواره مراهق أو كهل «متراهق» وأثير سؤال حول مجال تخصص العالم، سيقفز هذا المراهق أو المتراهق للتغريد والحكي، دون أدنى شعور بالحرج أو التقدير لمن يعرف ما لا يعرف. هذا السلوك يقود لكثير من العلل، وأظهرها سهولة توجيه هذا المتعالم «العصري» هذا دون أن يشعر أنه موجّه، عبر سكب المعلومات المضللة له، وهو الفاقد للقدرة على التمييز أصلا. ثمة كتاب للشيخ السعودي الراحل بكر أبو زيد عن التعالم، مفيد ممتع، ذكر فيه هذه الحكاية: صاعد بن الحسن البغدادي (ت417هـ) كان عالما ظريفا أديبا، سأله أعمى في حلقته: ما هو الحرنتق؟ فعلم أنه اخترع هذه الكلمة، فرد فورا: الذي يأتي نساء العميان. فخجل السائل، وضحك الحضور. وفي هذا الكتاب أيضا ذكر المؤلف دعوة قديمة جديدة للحسن البصري حول هؤلاء: اللهم إنا نعوذ بك من هذا الغثاء! m.althaidy@asharqalawsat.com