بعد مصرع حبيبها بطل الملاكمة مارسيل سيردان في حادث طائرة، عام 1949، بعثت له المغنية الفرنسية إديت بياف برسالة موجهة «إلى معجزتي»، وكتبت على الغلاف عنوانه: «شارع السعادة في الفردوس». ويمكن لآخر الرومانسيين في زمننا الراهن أن يطلعوا على الرسالة بنسختها الأصلية في معرض بعنوان «ليس لديّ ما أقول سوى إنني أُحبك»، يقام في متحف الرسائل والمخطوطات في باريس. لقد كانت العاشقة تتقلب في جحيم الفراق، لكنها تمنت للمعشوق أن يرفل في بهجة الفردوس. وبعد سنتين داوت قلبها بالتي كانت هي الداء، وأُغرمت ببطل العالم في سباق الدراجات، لوي جيراردان، وكتبت له: «أريد أن أعيش لك وبك. أن أُغني لك وحدك فلا يكون شيء بعدك. أن تكون الأوحد». ألا تذكركم هذه الـ«أوحد» بشيء من تراثنا السياسي؟ هذا مكان لا تدخله «داعش». ويطيب اللجوء إلى معرض رسائل الحب للهرب من تقارير الحرب. ليس صحيحا أن الفارق حرف واحد. إن بينهما ما يحيي ويميت. والدليل مقطع من رسالة كتبها الروائي الفرنسي رومان غاري لصديقته كريستيل كريلاند: «أحبك إلى الحد الذي أريد فيه أن أشربك وآكلك، وأن أتنكر بك وأن ألفك شالا حول عنقي، وأرتديك قفازين في كفي وخواتم حول أصابعي». وفيما بعد، شطب الكاتب على هذه الأسطر من الرسالة، لأنه اعتبرها حسيّة أكثر من اللازم. إن رومان غاري هو الرجل الذي قال إن ما يشغله في الحياة امرأة، وليس كل النساء. ما هو مؤنث «أوحد»؟ رسائل رسائل وكلمات كلمات وفضوليون من أمثالي يتطفلون على أسطر حميمة تبادلها مشاهير من الرجال والنساء، ونقلها سعاة مجهولون وما كان مقدرا لها أن تُفرد أمام أنظار العامة. نقطع تذكرة زهيدة وندخل لنتلصص على العشاق من ثقوب الأبواب. لا بأس، ولا أظن أن الممثلة جولييت دروو، حبيبة فيكتور هوغو، كانت ستشعر بالخجل ويتورد خداها عندما تعرف أننا قرأنا أجمل عبارة يمكن لرجل مفتون أن يخاطب بها الفاتنة: «حيث تكونين فلا منفى». هذا نموذج من غزل القرن التاسع عشر. وفي القرن الحادي والعشرين يحذّر المتغزل حبيبته: «عربي أنا. اخشيني. الويل إذا أحببتني». ولا يكتفي بهذا التهديد، بل يقعد ليلحنه ويغنيه ويعرضه على الشاشات. عارض هوغو انقلاب عام 1851 فحكم عليه نابليون الثالث بالنفي لثلاث سنوات إلى جزيرة جيرسي. ولم يصطحب زوجته إلى منفاه، بل أخذ معه حبيبته جولييت وأسكنها في بيت قريب من بيته. ولما عادا إلى باريس طلب منها أن تترك عملها في التمثيل وتتفرغ له. ولم يكن يسمح لها بأن تغادر منزلها من دونه، وسمح لنفسه بأن تكون له عشيقات غيرها. لكنها الوحيدة بينهن التي تبادلت معه عشرين ألف رسالة، حصيلة حب دام خمسين سنة. لا، ليس هناك خطأ في الطباعة. لقد تحابا لنصف قرن. ولم يتزوجا. وهذا يفسر تلك. ويبدو أنهما لم يتخاصما لأنهما كانا مشغولين بكتابة الرسائل. وفي رسالة تعود للفترة المبكرة من علاقتهما، كتب لها: «حين التقت عيناك بعينيّ، للمرة الأولى، مضى شعاع من قلبك إلى قلبي، مثل فجر يشرق على خرابة». أما هي فكانت في رسائلها إلى أديب فرنسا الكبير تسميه «توتو»، وتوبخه لأن الساعات التي يخصصها لها قصيرة، أقل مما تريد. هناك في المعرض رسائل عتيقة وملغزة من ألفريد دو موسيه إلى جورج صاند، وأُخرى ملتهبة من بريجيت باردو إلى زوجها الثاني جاك شارييه، كتبتها قبل الزواج طبعا. وسواء كان صاحب الرسالة جنرالا عظيما أو فنانا مشردا فإنهما يستويان في الخضوع لسلطان الغرام. وجاء في رسالة كتبها الشاعر رينيه شار: «إن كل حرف من حروف حبي شعب لا يُحصى». هل أحبها بعدد نفوس الصين، مثلا؟ لا شك أن الشاعر الفرنسي يشبه، في مبالغته، عمر بن أبي ربيعة الذي قال في قصيدة له إنه أحبّ فلانة «عدد النجم والحصى والتراب». وبهذا يكون شاعر قريش المفتون بنفسه «وهل يخفى القمر؟» قد سبق رينيه شار بثلاثة عشر قرنا.