كارثة هذا الزمان الأغبر في بلادنا العربية هو (التعصب) أولا وأخيرا، ولا أذكر طوال حياتي أنني قابلت يوما عربيا أو أجنبيا وسألته عن دينه أو مذهبه، وليس معنى ذلك أنني ما شاء الله مثالي وقد جئت من كوكب آخر، لا أبدا ولكنني أحترم نفسي باحترامي للآخر مهما كان. إنني لا أنسى منظر سيدة وهي تتحدث في إحدى القنوات التلفزيونية المصرية قائلة للمذيع : إن أنصار الإخوان المسلمين واجهونا وهم يرجموننا بالطوب والحجارة صائحين: الله أكبر، الله أكبر، وكأننا كفرة. أين نحن من مصر وسوريا عندما كانتا في أوائل القرن العشرين و(غالي باشا) القبطي كان يقيم ولائم الإفطار والسحور ويحيي ليالي رمضان مع أشهر مقرئي القرآن الكريم ؟!، وأين سوريا الآن من سوريا عندما نصبت (فارس الخوري) المسيحي رئيسا للوزراء دون أية حساسية ؟! أين نحن أيضا من سلطان (مسقط) عندما استضاف الرحالة رجل الدين المسيحي العراقي (ماراثنا سيوسي نوري)، وإليكم ما دونه نوري عن المحاورة الحضارية التي جرت بينه وبين وزيريه في حضرة السلطان عندما ذكر : «كانا يسألانني عن القرآن والإنجيل ويجادلانني في قضية الدين فطال الجدال بنا وقد التزم الجميع الحشمة والأدب مع الحرية التامة في هذا البحث أمام السلطان، وهو يظهر على نفسه أمارات البشاشة والفرح من الجدال، وكان أحد الوزيرين يكثر من طرح الأسئلة فأعطيه الأجوبة عنها كلها فقال السلطان له : ــ يا علي، إنك تفتح أبوابا ولا تدري كيف تقفلها، مع أن الحجة معك، يا ليتك تعرف كيف تتكلم. وكدت لا أصدق أن حرية الأديان مطلقة في هذه البلاد إلى هذه الدرجة، حتى أن (للبروتستانت) مكتبة دينية في سوق البلدة يبيعون فيها كل الكتب وليس من معترض. ثم استأذنت السلطان في الذهاب، فخرج من الردهة مشيعا إياي حتى السلم كما استقبلني فرجعت إلى سفينتي فرحا من مشاهدة هذا الحاكم اللطيف اللين العريكة والحسن الشمائل، قائلا بيني وبين نفسي: يا الله كم هو الإسلام من دين راق ومتسامح». وأخيرا وليس آخرا أين نحن من فيروز المسيحية عندما كانت تصدح بشعر سعيد عقل المسيحي في كل ليلة تقريبا بالتلفزيون السعودي في السبعينات بـ (غنيت مكة أهلها الصيدا)، ولم يكن في حينها أي سؤال أو اعتراض أو حساسية من الجميع، إلى أن أتت ما يسمى (بالصحوة) وما أدراكم ما الصحوة ؟! ولا أنسى كلمات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عندما قال ووجهه يتهلل بالبشر: ما أروع ما غنت فيروز، ما أروع ما أبدع سعيد عقل. والآن من هو الذي يسمع تلك الأغنية ؟!، يا ليت التلفزيون السعودي يحاول أن يعيد عقارب الساعة لنرجع للوراء ــ أو بمعنى أصح لنتقدم للأمام ولو قليلا ــ، وذلك ليسمع ممن لا زال في أذنه وقر.