×
محافظة المنطقة الشرقية

أمير جازان يبحث سبل استثمار الألعاب المائية مع رئيس اتحاد السباحة .. عبدالعزيز بن فهد: جازان منطقة مثلى لبناء نموذج تطويري لمنظومة الألعاب المائية

صورة الخبر

انكبّ طه حسين على أبي العلاء المعرّي باحثا، ومؤرخا، ومحلّلا، ومؤوّلا، ولم يكتف بكل ذلك إنما استأثر بصوته، فامتلكه في كتاب "صوت أبي العلاء" الذي جاء فيه "أنا أجد في صوت أبي العلاء أعذب في النفس وأحب إلى القلب من كلّ صوت ومن كلّ صدى". لا نظير لأبي العلاء في نفس طه حسين، وفي قلبه، حتى صدى صوته لا نظير له بين الأصداء، وذلك شغف مضاعف عابر للأمكنة والأزمنة، وبذلك حاز على صوته وصداه حتى جعله يجهر بما يضمر. وكان قد صرّح بأنه محبّ لكل ما يتصل به "أنا أحبّ أبا العلاء، وأكلف به، وأحب الحديث عنه، والتحدّث إليه، والاستماع للذين يتّخذونه موضوعا للحديث". غمر طه حسين كَلَفٌ بأبي العلاء، والكَلَف هو اللهج بالمحبوب، والولع به، والإعلان عن حبّه، وتجشّم المشقّة من أجله، ولم يعد هو بذاته مدار ذلك الحب، إنما تجاوز ذلك إلى الحديث عنه، والإصغاء إليه، بل تعدّاهما إلى حب الاستماع لمن يتحدّث عنه، فقد ربطت بينهما مؤانسة جعلت الأول يصطفي الثاني موضوعا للحبّ، وللحديث، وللإصغاء، وتلك حال فائقة من الكَلَف تحيط بالمحبوب من كل جانب، وتعبر عن الصيغة التي أحب بها قرينه، فلم يتطرّق إلى العلاقات الرابطة بين مؤلف قديم، وباحث حديث؛ العلاقة النقدية التي تفترض مسافة بين الاثنين، وتقوم على ثنائية قراءته بدقة، والكتابة عنه بمسؤولية، إنما اقترحت الصيغة الشفوية من حديث وإصغاء، وتلك علاقة تتصل بمداولة المعرفة وتناولها، كما طورتها تقاليد الرواية الشفوية في القرون الوسطى، ومن الواضح أنه كان أمينا لأعرافها وتقاليدها، فما لبث يملي كتبا وبحوثا، ويتحدث، عن مثله الأعلى، مبتدئا بإطروحته للدكتوراه في أول عمره عام 1914. يعود شغف طه حسين بأبي العلاء، في تقديري، إلى خِلال شخصية وأدبية ربطتهما، وميراث يتشاركان فيه، قوامه: الذكاء، والعمى، والابتكار الأدبي، فقد وُصف أبو العلاء بأنه "كان آية في الذكاء المفرط، عجبا في الحافظة"، كما سمّى نفسه "رهين المحبسين"، قبل أن يجعلها ثلاثة: فقد النظر، ولزوم الدار، ومكوث النفس الطاهرة في جسد خبيث. ثم الاعتراف الذي انتزعه بانفراده فيما لم يسبق إليه الآخرون، وهو لزوم ما لا يلزم، إذ اختار المركب الصعب في الكتابة الشعرية والنثرية التي كانت عنده "صراعا عنيفا مع ما لا يجوز كتابته وما لا ينبغي قوله، ومجهودا شاقا متواصلا لصدّ ما يتعارض مع الصواب وإقامة سد منيع دونه" كما قال عبد الفتاح كليطو. وجد طه حسين في أبي العلاء مرآة له يرى نفسه فيها، أو قرينا ينبغي عليه ملازمته، ومتبوعا يجب عليه أن يتبعه، ويحاكيه في ذكائه، وعماه، وتفرّده، فاتصل به اتصالا عميقا في كل ذلك، وربما بزّ قرينه في الذكاء وقوة الحافظة، فتركته الأدبية والفكرية تماثل ما تركه سلفه، إن لم تزد عليه، ولطالما وجد نفسه مجددا ومبتكرا، وقد صرح بذلك كثيرا، ومنه إعلانه المبكّر في مفتتح كتابه "في الشعر الجاهلي" بالقول "هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل". رأى طه حسين في أبي العلاء شبيها له في مبتدأ حياته، وطوالها، ورد ذلك أكثر من مرة في كتاب "الأيام" فقد طابق بين حاله حينما أكل لقمة بكلتا يديه مما أحدث هرجا من أخوته، وحزنا من أمه، وتوبيخا من أبيه، وحال سلفه حينما لوث صدره بالدبس دون أن يعرف بذلك، وإذا كان قرينه قد امتنع عن أكل الدبس ما تبقى له من حياة، فصار يأكل طعامه في نفق تحت الأرض بعيدا عن الأعين، فقد حرّم هو "على نفسه ألوانا من الطعام لم تبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين"، فربط أمره بأمر أبي العلاء "أعانته هذه الحادثة على أن يفهم طورا من أطوار أبي العلاء حق الفهم" بل إنه أصبح يفهم حياة سلفه "لأنه رأى نفسه فيها". لا سبيل إلى فصم الصلة بين الاثنين، الكاتب الأعمى وقرينه الأعمى، وكما وصف في "الأيام" حادثة عماه، وصف في "تجديد ذكرى أبي العلاء" ذهاب بصر قرينه، قائلا بأن تلك الواقعة نقشت "في نفسه نقشا لايزول"، واعتبرها من "كبار المصائب وعظام الأحداث". وقد اعتاد أن يصطحب معه مظان الأدب العربي في رحلاته الصيفية إلى أوربا، وفي إحداها اصطحب لزوميات أبي العلاء، وفصوله وغاياته، وانكب عليهما، وراح يملي نبذا وشذرات عنهما، ولم يتم كتابه عنه الذي جاء بعنوان "مع أبي العلاء في سجنه" إلا في مصر خلال صيف عام 1939 بعد ربع قرن من كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء" فارتسمت صورة مزودجة لحبيس المعرّة في مخياله، ففي فرنسا هو الغاية، حيث ينصرف عن العالم المحيط به مختليا بقرينه، وهو يحاوره شارحا ومحللا ومؤولا، وفي مصر يتحوّل إلى وسيلة يستعين بها للتدريس في الجامعة. في الحال الأولى يصبح خلا، وفي الثانية وسيلة للعيش "في فرنسا كنت أخلو الى الشيخ حبّا له وإيثارا لنفسي بلذة حديثه، فأما في مصر فقد أزوره لألتمس عنده ما أقوله للطلاب، كان غاية في فرنسا وكان وسيلة في مصر. وشتان بين الغاية والوسيلة!". في فرنسا كان أبو العلاء شريكا في التفكير، وفي مصر أصبح موضوعا للتدريس، وجد نفسه منفعلا بأبي العلاء، وهو يصطحبه معه في ترحاله، فيقيم معه حوارا تداخلت فيه أحاسيس الاثنين، ينوب قول أبي العلاء عما يفكر به طه حسين. من الصحيح أن الأخير كان أكثر انسجاما مع عماه من الأول، ولكن تكرار عاهة الأول تبطن إشارة إلى سخطه هو، فقد استكثر على أبي العلاء سخطه مما هو فيه، ولطالما اقترح عليه مصالحة بالا يقصر أهمية العالم على العين، فثمة طرق كثيرة لاكتشاف العالم. أظهر طه حسين زهدا برؤية العالم كفاه لجاجة التشكّي من عماه، وهو ما لم يجده عند سلفه فراح يحاججه حجاجا دنيويا "أن تلمّ بنا أسباب النعمة قوية أو ضعيفة، صحيحة أو كاذبة، فنتشبّث بها ونشدّ بها أيدينا وأنفسنا، ونأخذ بما تحمل إلينا من ألوان الراحة وضروب الأنس أم أن تَعْرِض لنا فنعرض عنها، وتقبل علينا فنمتنع عليها، ولا نحصل من الحياة إلا ما حصَّلتَ من خيبة الأمل وكذب الرجاء وظلمة اليأس وحرقة القنوط". وفيما كان أبو العلاء يحبس نفسه نصف قرن من الزمان في معرّة النعمان كان خَلَفه يمضي أصيافه في أوربا مبتهجا في عالم مفتوح، فلا غرابة أن يكون موضوع شفقة "أنا شديد الإشفاق على أبي العلاء من نفسه قبل كل شيء، وقبل كل إنسان. فلم يظلمه أحد قط كما ظلم نفسه، ولم يكلفه أحد قط من الجهد والعناء ومن المشقة والمكروه مثل ما كلّف نفسه نحو خمسين عاما. ولم يفتنّ أبو العلاء في شيء كما أفتن في ظلم نفسه وتحميلها ما تطيق وما لا تطيق وأخذها بالمكروه في حياتها العملية والعقلية أيضا"، وبمقدار تماهيه مع شيخه، مما يعبر عن رابطة عاطفية ونفسية وفكرية وذوقية بينهما، فقد فارقه في نوع من المواربة التي جعلت من الافراط في وصف سجون المتبوع ذريعة للتابع ليترحّل في العالم تحديا لها كلها. ثم اتهم طه حسين أبا العلاء بأشياء كثيرة حاول أن يبرّيء نفسه منها "كنت أتهمه بالإسراف على نفسه وعلى الحياة، وأصِمه بالكبرياء والغلو، وأدعوه إلى شيء من التواضع والاعتدال في الرأي والسيرة". وسند تلك التهم أنه استكثر عليه ظنّه "بلذات الحياة أكثر وأكبر مما ينبغي أن يظنّ بها"، فكل ذلك من شطحات الخيال، فالمبصرون ليسوا أكثر سعادة من العميان، ف"حقائق الأشياء وجمال الطبيعة أبعد منالا مما يظن المبصرون وغير المبصرين".