تحت وطأة أحداث العصر، المسهمة في تغيير أحوال البشر ومصائرهم، وسطوة الزمن وإلزاماته ومنعطفاته، التي تأخذهم إلى حافة الارتباك وغلواء اللا مبالاة، والانصراف إلى نشدان الحياة الصعبة والمخاتلة، والاشتباك مع الفراغ وكل ما هو عرضي، تسرب إلى الأسماع خبر وفاة ورحيل الشاعر العربي "محمد الفيتوري" كما نشرته الجريدة الأسبوعية المصرية "أخبار الأدب" مما دفع كتاب المغرب لإصدار بيان، يوضحوا فيه أن شاعر أفريقيا مازال حاضراً، يقيم في شاطئ "سيدي العابد" بضواحي العاصمة المغربية الرباط، وقد علق الفيتوري على إعلان وفاته بابتسامة عريضة وردد مقولته الشعرية "مثلي أنا ليس يسكن قبراً.. لا تحفروا لي قبراً.. سأرقد في كل شبر من الأرض"، يعاني الفيتوري من عقدة هويته الملتبسة، فهو من أصل سوداني من حيث الأم، وليبي من جهة الأب، ولكنه يشعر بالانتماء الوجداني إلى كل أرض عربية أقام فيها، كما ذكر ذلك لمجلة "الدوحة"، التي أصدرت ملفاً عن الشاعر تناول شعريته، كواحد من أهم الأصوات الشعرية العربية في القرن العشرين، ورائد من رواد الحداثة الشعرية وفي طليعتها، ارتبط الفيتوري بالذهنية الإبداعية من خلال فكرة "الزنوجة" التي سبقه إليها الشاعر الشهير "ليبول سيدار سنغور" وقد أفرط الفيتوري في تكريس تلك الحالة في مجمل منجزه، مما دفع الناقد محمود أمين العالم ليقول: "إن بشرته السوداء كانت تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا فيها حاجزاً كثيفاً، يحرمه المشاركة والاندماج، ويشعل في نفسه مشاعر مريرة" وقد عبر عنها في شعره "فقير أجل.. ودميم دميم ..بلون الشتاء.. بلون الغيوم..يسير فتسخر منه الوجوه.. وتسخر حتى وجوه الهموم.. فيحمل أحقاده في جنون..ويحضن أحزانه في وجوم"، تنهض شعرية الفيتوري وطاقته الإبداعية على محورين كما قال الدكتور محمد الشحات "أولهما: قدرته على نسج مجازات مدهشة، تتخلق عند التخوم كأنه واحد من شعراء المنفى، لما ينطوي عليه من غربة وجودية، وثانيهما: خروج استعاراته من مناخ أفريقي مفعم بمفردات البكارة والبرية والدماء الحارة، وإرث أسود مثقل بالعبودية"، "ألأن وجهي أسود.. ولأن وجهك أبيض سميتني عبداً.. ووطئت إنسانيتي وحقرت روحانيتي فصنعت لي قيداً؟" الفيتوري شديد الزهو بشاعريته، مما جعله يسفه ويقلل من أهمية ومكانة شعراء جيله، فأحمد عبدالمعطي حجازي ليس شاعراً بالمطلق، والبياتي كذلك، ومحمود درويش ليس شاعراً ولكن القضية جعلت منه شاعراً، ونزار قباني شاعر في خدمة الآخرين، أحب أنور السادات الفيتوري وقربه إليه، ثم هجاه بقصيدة: "الراقدون على بطونهم والدجى فوقهم حجر"، إرضاء للقذافي، أعجب بمحمد نجيب وهاجم جمال عبد الناصر بقصيدة منها: "مات وملء روحه المسودة المحترقة، رمز يغطيه دم المشارق المعلقة، وصرخات الثائرين في السجون المطبقة".