×
محافظة مكة المكرمة

جدة.. تعقب صكوك الـ47 مليون متر

صورة الخبر

عاد الحديث حول مسألة «التحريض» إلى الواجهة مرة أخرى بعد حادثة الاعتداء الأخيرة التي وقعت في منطقة الأحساء قبل أيام. كما تكررت الدعوات ذاتها؛ لمحاسبة «المحرضين» في مواقف سابقة: ذهاب الشباب للمشاركة في القتال في العراق قبيل الاحتلال الأميركي للعراق 2003، ثم انضمام الشباب لتنظيم الدولة الإسلامية في سورية بعد اندلاع عسكرة الثورة هناك، وأخيراً حادثة الاعتداء على أجنبي في الرياض قبل أشهر. المشترك في مسألة تكرار الدعوات لمحاسبة المحرضين أنها تأتي دائماً في سياق «نكبة» مرعبة تعصف بالمجتمع. حدث مخيف وغامض، ويبدو أن هناك عجزاً عن وصفه وفهم سياقاته من المعلقين والإعلاميين. حدث محير كانضمام الشباب لتنظيمات قتالية في الخارج، أو المشاركة في اعتداءات «إرهابية» في الداخل. أو جريمة تحمل في طياتها شبهة «اعتداء طائفي» كحادثة الأحساء. تتم مباشرة مواجهة هذه النكبات بالحديث عن كائن غامض، لا نعرف له وجهاً، يسمى «المحرضون»، يحملون صفات يمكن أن تنطبق على كل أحد، ولا أحد. غالباً ما يكون هؤلاء «المحرضون» متطرفين فكرياً، في الغالب يحملون أفكاراً دينية، مدعومين من الخارج؛ لزعزعة أمننا، يحملون أجندة مؤامراتية تستهدف وحدتنا، يظهرون في وسائل الإعلام التي يشاهدها المجتمع، أو يتواصلون مع المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعية الإنترنتية كـ«تويتر». يحمل «المحرضون» أجندة تشوه الدين وتستهدف الوطن...الخ. غالباً ما يتم الزج باسم أو اسمين باعتبارهم متهمين بالتحريض من دون أن يكون هناك أي رد فعل رسمي. انعدام رد الفعل الرسمي مفهوم، لأن معظم الحديث عن «المحرضين» هو محاولة تصفية حسابات آيديولوجية مع مختلفين فكرياً، لا لاعتبار هؤلاء «مجرمين» فعلاً. بالتأكيد هناك دعاة كراهية ودعاة عنف، ما دمنا نعاني من وجود خطاب كراهية، وخطاب طائفي، ومبررون للعنف السياسي أو «الإرهاب» لأسباب مختلفة. وهذه مسألة مغايرة يتم تناولها بطريقة مختلفة عما يحدث اليوم. الإشكال الذي يجب أن نواجهه حالياً أن هناك مأزقاً كبيراً في تناول موضوع «التحريض». وهو أنه شعار يستخدم في سياقات تبريرية للجريمة. واعتذارية للمجرم. أو في أحسن الأحوال، للهروب من المشكلة. الحديث عن المحرض «المجهول» يوحي بصورةٍ ما إلى أنا مرتكب الجريمة شخص مسلوب الإرادة، جاهل، مندفع، لا عقل له. ارتكب الجريمة؛ لأن هناك شخصاً مستفيداً مختبئاً في قبوٍ ما، يتحكم في إرادته وتصرفاته. هنا يتم إعفاء المجرم من المسؤولية الأخلاقية الكاملة عن جريمته باعتباره مجرد شخص «مغرر به». وهذا تزييف كبير للواقع. يمكن تفهم هذا لو كان مرتكب الجريمة مختلاً أو قاصراً، لكن لا يمكن الحديث عن شخص عشريني أو ثلاثيني باعتباره مجرد شخص «مغرر به» غير مسؤول عن أفعاله. مرتكب الاعتداء في الأحساء أو الرياض هو مجرم واعٍ، قاصد لما يفعل، يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية كاملةً عن فعله. تضخيم الحديث عن «المحرض المجهول» يجعلنا -بصورة ما- نقلل من دافع المجرم وإرادته لحظة ارتكابه لجرمه. الإشكال الآخر في تضخيم مسألة التحريض أنها تمنعنا من التفكر في أسباب الجريمة، فيتم استخدام المحرض، وفكرة المجرم «المغرر به» كتخدير مريح، أو شماعة تشغلنا عن مواجهة واقعنا، ويعرقل البحث عن الخلل الذي انتهى بنا إلى رؤية هذه الاعتداءات. لا يمكن اعتبار تضخم الانقسام الطائفي في المنطقة مشكلة تسبب بها محرضون في قنوات فضائية أو «تويتر». هذا تبسيط مخل جداً وخادع. كما لا يمكن اعتبار المجرم مجرد شخص استجاب لتغريدة أو برنامج تلفزيوني. هذا يجعله مريضاً، يحتاج إلى علاج نفسي، لا مجرماً يجب عقابه. السجالات ذاتها تمت في وسائل الإعلام الأميركي منذ عقود. حول تأثير الإعلام في سلوكيات المشاهدين وارتكاب العنف. هناك تاريخ ممتد من النظريات ونقائضها التي تدرس هذه المسألة. ابتدأت باعتبار الإعلام مؤثراً حاسماً في سلوكيات الناس، والذين يستجيبون للإعلام بشكل مباشر، كما في موجة النظريات الإعلامية في الثلاثينيات، ثم انقلبت الأوضاع رأساً على عقب بعد الحرب العالمية الثانية، باعتبار تأثيرات الإعلام محدودة، وسلوكيات البشر تتأثر بعوامل كثيرة كالمحيط الاجتماعي، والتعليم، ومستوى الدخل..إلخ بعيدة عن تأثير الإعلام المباشر. حتى مع هذا الجدل حول مدى تأثير وسائل الإعلام في المجتمع، فإن محاربة الخطاب الطائفية والعنصري وخطاب الكراهية مهم، باعتبارها خطابات لا أخلاقية، بغض النظر عن الجدل حول تأثيره وربطها بأحداث عنف وجرائم قتل. نعم، هناك دعاة كراهية ودعاة عنف. من خرج على إحدى القنوات الفضائية وطالب بقتل أطفال «الرافضة» في العراق وسورية مجرم. وتجب محاكمته باعتباره يدعو إلى القتل. من كتب هذا على شبكة الإنترنت مجرم كذلك، ويجب أن يعاقب. لكن هذه مسألة مختلفة عن شعاراتية الحديث عن «المحرضين» إعلامياً بعد أي جريمة. الدعوة إلى العنف، ونشر الكراهية والعنصرية بين أفراد المجتمع، جريمة بحد ذاتها، يجب تناولها -وعقاب مرتكبيها- باعتبارها أمراً مستقلاً، لا أخلاقياً، بغض النظر عن ربط هذه الدعوة بوقوع اعتداء. محاولة ربط دعوات العنف بأي اعتداء على الأرض يعتذر للمجرم. ويوحي بأن الكراهية والطائفية جريمة حال تسببها في قتل بشر، لكنها أمر مقبول عندما لا تنتج فعلاً عنيفاً. ولهذا عواقب كارثية. فالطائفية والعنصرية ونشر الكراهية بين أفراد المجتمع يجب أن تجرم قضائياً بشكل مستقل، باعتبارها جرائم مستقلة، وممارسات لا أخلاقية. بغض النظر عن تبعاتها. * كاتب سعودي. BALRashed@