«الذين يروون الحكايات يحكمون المجتمع أيضا». أيا كان المعنى الذي أراده أفلاطون من عبارته هذه، فإنها تختزن دلالة على تأثير الكلمة. للكلمات قدرة على البناء كما لها قدرة على الهدم. قد تفتح الكلمة العقول وتنيرها، وقد تحولها إلى أقبية مغلقة معتمة. وربما تَحَوّل تأثيرُ الكلمة إلى فعل، فإما أن يكون الفعلُ بنَّاءً أو مدمرا. وإما أن يدفع صاحبه إلى الأمام أو يشده إلى الوراء. بالكلمات تم شحن العقول وتكبيلها بمفاهيم وأفكار تتعارض مع إيقاع الحياة الجميل، والفطرة السليمة. وبتأثير الكلمات نشأت حالات من التزمت والممانعة أعاقت الحراك الاجتماعي الإيجابي، وناهضت مشاريع التنمية والتحديث. ممانعة لم تنبع من فراغ، بل هي حصاد لغة تدفع الواقعين تحت تأثيرها إلى المجهول. كان للتزمت، عبر مراحل التاريخ المختلفة، أنيابٌ ومخالب. وقد ارتبط العنف في الغالب بـ (دوغما) تستوطن الرؤوس، تتوهم امتلاك الحقيقة، وتبني جدران العزلة. تنظر للعالم بعين السخط، وبعدم استحقاق الآخرين للحياة، وتواجه الفكر المختلف بمنطق القوة بدلا من قوة المنطق. ويكفي للتعرف على حصاد ذلك التزمت المدجّج بالعنف اللغوي والجسدي، مشاهدة نشرات الأخبار، وتأمل السجال الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية. وإذا كانت اللغة هي مفتاح التواصل بين البشر، فالوعي هو المفتاح الثاني، وبدونه يبدد الناس جهودهم في سجالات ومعارك حصادها التخلف. اللغة مفتاح العقول والقلوب ما لم تكن العقول مبرمجة والقلوب موصدة بأقفال التزمت. لا تأثير للتزمت على حياة الآخرين حين يكون خيارا أو التزاما شخصيا محصورا في ذات المتزمت. تبدأ المشكلة عندما يخرج مارد التزمت من القمقم ليفرض وصايته على من حوله. ثم يتمدد وتتسع دائرته، ويصبح مزاجا عاما لشريحة اجتماعية كبيرة يطال تشدّدها حريات الآخرين وأذواقهم ونشاطاتهم الاجتماعية والثقافية. وقد طال عنفُ التزمت فلاسفةً ومفكرين وأدباء من مختلف الثقافات. القائمة طويلة لكني سأكتفي باستعراض بعض الأسماء. وعلى سبيل المثال، لم يُقْدم العالم البولندي الأصل نيكولاس كوبرنيكوس على طباعة آرائه ونظرياته ونشرها إلا حين أحس بدنو أجله. تسلم أول نسخة من مؤلفه وهو على فراش الموت. كذلك وُجِّهت تهمة «الهرطقة» لأحد عباقرة العلم الحديث الفلكي والفيزيائي والفيلسوف الإيطالي جاليليو. وحوكم المسرحي والروائي والشاعر أوسكار وايلد بسبب عمل أدبي خيالي يعتبره النقاد تحفة أدبية. لكنه لم يعجب المتشددين الساعين إلى تعميم قيمهم على الناس كافة. يخاطب وايلد المدعي العام قائلا: «عندما أؤلف مسرحية أو أكتب كتابا فإن اهتمامي يتركز في الأدب أي الفن». وبالتأكيد فإنه لا اعتبار إلا لمعايير الفن في لحظات التجلي الإبداعية. وعلى الجانب العربي، قُتِل الحكيم الشاعر صالح بن عبدالقدوس المعروف بمناظراته الفكرية مع العلاَّمة أبي الهذيل العلاف. وأُحرقت كتبُ الفيلسوف ابن رشد، وأُتلفت مكتبةُ يعقوب بن إسحاق الكندي. ولم يسلم من تهمة الهرطقة أبو حيان التوحيدي. مما يؤكد مقولة بودلير: «إن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة، وغالبا ما تعمل جهدها كي لا يكون لها عظماء»! ساهم التزمت الأيديولوجي في الحد من حرية الفكر والأدب والفن. أما التطور الذي حققته المجتمعات الحديثة في تلك المجالات كافة، فلم يكن ليتحقق لولا أجواء الانفتاح التي سادت لاحقا، أي بعد أن تجاوزت تلك المجتمعات أزمنة التشدد، وشرَّعت قوانينَ وأنظمةً تحمي الحريات كافة، ومنها حرية التعبير المسؤولة.