من مميزات الإعلام الجديد أو من عيوبه أنه جعل صوت الاحتجاج ينتقل من الشارع الى السلطة مباشرة بدون وسيط، فساحات العرب اصبحت منابر احتجاج شعبي لكل من يدعي انه تعرض لظلم او يمتلك فكرة إصلاحية يريد ان يوصلها الى مراكز القرار العليا، فقد عطلت شبكات التواصل الاجتماعي عمل الاحزاب السياسية في العالم العربي، فالمعروف ان الاحزاب العربية قبل الربيع العربي لا يوجد لديها قوة الا قوة التعبير أي انها تجهز المنابر والشوارع للمحتجين وغير ذلك لا قوة او تأثير لها، حتى الاحزاب التي تتبنى الطرح الديني فقدت الكثير من تأثيرها بعد ان خسرت منابر التواصل الاجتماعي، فاصبحت قوة تماسكها تكمن بتفريقها الى افراد تغرد بمفردها لتجنب الاصطياد والابتعاد عن وهم كسب كل شيء او خسارة كل شيء. وهنا فرصة كبيرة سانحة للحكومات العربية لبناء حوار منتج مع شعوبها بدون ضجيج البرلمانات المصلحية او الاحزاب المزيفة، فالدول العربية التي تتمتع باستقرار او شبه استقرار لا يقبل منها العذر بأنها لا تسمع صوت شعبها او ان وعي شعبها تم العبث به من الخارج، فكل الوسائل متاحة امامها للتواصل والادراك لقياس حجم الرضا والغضب الشعبي على ادائها، فالتقنية هيأت للشعوب برلمانا ومنابر تطرح فيها القضايا وتقدم بها الحلول ومع هذا الحراك الافتراضي الذي يتنقل من موضوع الى موضوع بكبسة زر تتولد القناعات فلا يمكن ان يبقى حراكا افتراضا مع الزمن، او تنقلا آمنا، فما يجعل هذا التحرك شيئا محمودا للحكومات قبل شعوبها هو مشاركة الحكومات بهذا الحراك وخلق القرارات المصيرية من نبضه، فالشعوب التي تتحدث بسقف مفتوح هي لا تتحدث لتتسلى ولكنها تعبر عن موقف وتقدم حاجاتها بعقلانية مرة وبعاطفة غاضبة مرة. تجربة الشعوب العربية التي دخلت بلدانها ثورات الربيع العربي نقرأ من لغة تواصلها بشبكات التواصل الاجتماعي ان ما تبع التغيير بها واقعا جعل دولهم كيانات طارئة ممكن التخلي عنها لحساب مذهب او قبيلة او حتى عصابة، فالوطن الذي قامت الثورات باسمه اصبح بقاؤه حملا ثقيلا على صناع الثورات ولكي يتخلصوا من هذا الحمل استمروا باحتجاجهم ولكن هذه المرة باسم الثورة وليس باسم الوطن، والثورة فكرة تنتقل من ساحة الى ساحة ومن دماغ الى دماغ مثل تنقل المغردين بتويتر من موضوع الى موضوع، فلبس المواطن بالدول المنكوبة حزامه إما للقتال وإما للرحيل، فالوطن الطارئ جعل الوجود طارئاً، فالثورات لم تكن ثورات من اجل الحرية او العدالة او المواطنة بل ثورات شعبية بشعاراتها فقط ولكنها في حقيقتها غزوات قبائل وصراعات طائفية، اشعلت النار والثأر ولا تعرف كيف تخمدهما ولن تستطيع ان تخمدهما مادام ان الوطن اصبح كيانا طارئا يعيش به ناس طارئون على الحياة المشتركة والاستقرار الدائم، فالحديث الآمن مع الشعوب لا يمر من خلال ثورة بل عن طريق احترام الحاجات والولاء للوطن، فهذه قناعة لم تدركها دول الربيع العربي.