يبدو أن سقوط تجربة «الإخوان» في حكم مصر، ثم إخفاق حزب النهضة الإسلامي في الحصول على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية التونسية الأخيرة، قد جعل بعض الكتّاب والمثقفين يخلص إلى أن هذه بداية النهاية للأحزاب الإسلامية، وأول أمتار التدحرج نحو الهاوية بلا عودة، ولم ينظر هؤلاء إليها من زاوية الحقيقة البدهية التي تقول إن الانتصار والهزيمة يعتريان أي حزب سياسي في الدنيا، مهما بلغت قمة نجاحاته، أو بلغ درك إخفاقاته، وإن ديمومة الانتصار لأي حزب سياسي لا تكون إلا في الأنظمة الشمولية، كالحزب الشيوعي في كل من الاتحاد السوفياتي السابق والصين، وحزب البعث في العراق وسوريا، والحزب الوطني في مصر. الهزيمة الحقيقية لم تكن لحزب النهضة. الهزيمة المؤلمة والمخجلة هي لشريحة من النخبة المثقفة كانت ردود فعلها ومفردات خطابها غير لائقة أكثر منها ردود فعل لخصم سياسي نبيل: «التونسيون يبصقون على (النهضة). تونس توجه لطمة على وجه الحزب الديني الفاشي. الإسلاميون إلى مزبلة التاريخ»، في وقت كان فيه الساسة التونسيون المتنافسون (منتصرهم ومنهزمهم.. إسلامييهم وليبرالييهم) يقدمون للعالم العربي نموذجا راقيا في المنافسة السياسية ليس معهودا في المحيط العربي الموبوء في بعض جوانبه بالتراشقات العنيفة وغير الحضارية حين تحتدم منازلة سياسية أو فكرية، فالباجي قائد السبسي رئيس حزب «نداء تونس» العلماني، في خطابه الاحتفالي بالنصر، يفتح الباب لاحتمالات تحالفية مع خصمه اللدود (حزب النهضة)، وراشد الغنوشي رئيس الحزب الإسلامي المنهزم يعترف بهزيمته ويقدم التهنئة لخصمه رئيس الحزب المنتصر، فعلا تجربة جديرة بالتشجيع والرعاية، لا أن يصب عليها المتطرفون العرب من كل الاتجاهات والتوجهات زيت التخذيل، في محاولة بليدة لإشعال الفتنة بين أهل البلد الواحد. أدرك التونسيون بثاقب بصيرتهم ونضجهم أن إقصاء أي حزب سياسي أو توجه فكري يعني دفع البلاد نحو نفق القلاقل وعدم الاستقرار، كما أدرك التونسيون أن استيعاب التوجهات الإسلامية التي تنبذ العنف في العملية السياسية هو الطريق الأوحد لتقليم أظافر التشدد ومحاصرة الإرهاب، والعكس بالعكس، فإقصاؤهم من العملية السياسية قطعا سيدفع ببعض شبابهم لأن يكونوا أكثر تشددا، فتتخلق لديهم القابلية لالتقاط جرثومة الإرهاب. لقد قرأنا نقدا قاسيا لتجربة «الإخوان» في حكم مصر، وأنهم إن حكموا فسينقلبون على الدستور وعلى الأحزاب ويستفردون بالسلطة، لولا أن الجيش المصري استجاب لمطالب المصريين وأفشل مخططهم، لكننا لم نسمع من هؤلاء الناقدين أي تقويم موضوعي متزن لتجربة الإسلاميين التونسيين في حكم بلادهم المختلفة عن تجربة «الإخوان» في مصر، يذكر السلبيات في طريقة حكمهم، ويقدر لهم اندماجهم في العملية السياسية، فحزب النهضة حين انتصر لم يعين من صفوفه رئيسا للدولة، مع أنه حق مكتسب للحزب المنتصر، وحين اندلعت المظاهرات ضد حزب النهضة الحاكم حنى رأسه للعاصفة الجماهيرية، ولم يتشبث بوزاراته السيادية، واستقال وزراؤه، وتسلم الحقائب مستقلون تكنوقراط، وأخيرا اعتراف حزب النهضة بالهزيمة في الانتخابات الأخيرة، واحترامه لإرادة الجماهير، كل هذه الإيجابيات لم ينظر إليها بعض منافسيهم في الدول العربية الأخرى، بل اشتدت المطالبة بإلغاء الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، ووصلت إلى حد أن بعض متطرفي الليبراليين في بلد عربي كبير طالبوا بملاحقة أعضاء الحزب الإسلامي المنحل كي يمنعوهم من الانضواء تحت أحد الأحزاب المدنية الأخرى في الانتخابات البرلمانية المقبلة.. سهل أن تقصي، لكن صعب أن تتحمل تبعات الإقصاء الخطيرة.