هذه المرة يقف العالم، والغرب منه خصوصا في صف الفرس، ضد العرب والترك، مما يوحي بالتخطيط لطي السجل التاريخي الطويل إلى الخلف بما يعادل ألفا وأربعمائة عام. صراعنا مع إيران على أسس دينية مذهبية لن يصل إلى نهاية مرضية للطرفين، لأن الصراع مع الفرس ومع الروم أيضا في أصله أقدم من الإسلام، وكان صراعا حضاريا وقوميا. كسب العرب الصراع في الماضي بجدارة لأن الإسلام في حينه، قبل أن يتشتت بالمذاهب والمصالح السياسية، كان مكونا أساسيا في الحضارة والثقافة العربية، ثم لم يصبح كذلك فيما بعد. أنزل القرآن بلسان عربي على نبي عربي وتم نشر الإسلام بتخطيط وجهود قادة ومحاربين عرب. تفككت الدولة الساسانية وتأسلمت وتعربت، أما الروم فالوضع معهم مختلف. عسكريا انتصرت الجيوش العربية على ممالك الروم، ولكن هؤلاء لم يتعربوا ولم يتأسلموا واحتفظوا بأسمائهم وأناجيلهم وصلبانهم. صمم الروم منذ البداية على مقاومة الهوية الحضارية الغازية بكل مكوناتها بالهوية الحضارية الخاصة بكل مكوناتها. عبر هذا التاريخ الطويل الممتد لقرابة ألف وأربعمائة عام أصبحت أسماء محمد وعلي وحسن وحسين وفاطمة وزينب هي الأسماء الأكثر انتشارا في إيران، ولكن ليس أبو بكر وعمر وعثمان وخالد والزبير وعائشة. كان في الأمر وضوح منذ البداية، ماعدا خلال تلك الفترات التي كان فيها حكم فارس بيد العرب أو السلاجقة الترك. منطلق الروم ثم ارتدادهم على العرب وغزوهم واستعمارهم اعتمد على مواجهة حضارية ثقافية عقائدية في عجينة واحدة. منطلق الفرس كان واقعيا حسب ظروفهم، امتصاص الزخم الغازي وتمثله على الطريقة المحلية ثم استعماله كسلاح ضد الغزاة. لم يكن عند الفرس أيام الفتح العربي الإسلامي دين سماوي، وكانت الزرادشتية النارية ومشتقاتها هي السائدة، والممالك الساسانية لم تكن متجانسة عرقيا ولا تتكلم لسانا موحدا، لكونها أخضعت بجبروت السلاح، وكان من ضمن المخضعين عرب السواد في العراق وعرب البحرين الكبرى وشمال الجزيرة. بدأ التشيع عربيا سنيا، انتصارا لعلي ابن أبي طالب وليس لأهل البيت، ضد معاوية وليس ضد الفخذ الأموي من قريش. لم يكن آنذاك مسمى «الدولة الأموية» موجودا، ولا مصطلح «آل البيت» كذلك. تزاوج الفرس مع العرب وحرصوا على أحفاد أحفاد الحسين بن علي ابن أبي طالب تحديدا بسبب المصاهرة، مع الإهمال التام لكل من تناسل من أصلاب أبناء وبنات علي ابن أبي طالب من نساء أخريات. على سبيل المثال أبو القاسم محمد بن علي ابن أبي طالب، المكنى محمد ابن الحنفية لأمه خولة بنت جعفر الحنفية، ليس له النصيب المستحق في التراث الشيعي الفارسي ( وللأسف ولا العربي لاحقا) وهو الذي عندما سألوه: لِمَ يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين؟ فأجاب: إنهما عيناه وأنا يمينه، فأبي يدفع عن عينيه بيمينه. خلاصة الموضوع بمجمله تتركز في كون ارتداد الروم على العرب جاء مبكرا وحقق انتصارات مذهلة، على العرب خصوصا وعلى المسلمين كافة حتى يومنا هذا، أما الارتداد الفارسي فهو لتوه يبدأ. يقولون إن الفارسي له صبر طويل، لدرجة أنه يستغرق عشر سنوات في حياكة سجادة فارسية واحدة لكنها تكون في غاية الإتقان. بسط العرب سجادتهم لفترة طويلة على عالم الإسلام، لكن بدون تجديد ولا صيانة حتى امتلأت بالثقوب والشقوق والعناكب والبراغيث والطفيليات. الفرس بدأوا الآن في طي هذه السجادة العربية المهترئة، لاستبدالها بسجادة فارسية استغرق نسجها ألفا وأربعمائة عام. هل هي عودة إلى عمالة المناذرة والغساسنة للفرس والروم؟. ذلك يعتمد على من بأياديهم تصريف أمور العرب وصبر شعوبهم عليهم، لكن الصراع لم يكن يوما عقائديا بحتا، ومسألة كسب العرب للصراع بهذه المفاهيم مرة أخرى مستحيل، والأرجح أنه يصب في مصلحة الفرس. للعلم، وبدون خداع للنفس، أكثر المسلمين من غير العرب في عصرنا الحاضر يتعاطفون على مستوى الشعوب مع التشيع الفارسي، جهلا به أحيانا واحتقارا للواقع المزري الحالي للحضارة العربية. مواقف الحكومات الإسلامية المختلفة مع هذا الطرف أو ذاك لا تعبر بالضرورة عن عواطف الشعوب ولا يمكن الرهان عليها للمستقبل.