كلما سمعت شتم أمير المؤمنين عمر في قنوات اليوم أشعر بالأسى من هذا الواقع الذي يشعرنا بالخجل تجاه شخصياتنا العظيمة، ومنهم أمير المؤمنين الذي أعجز كل من جاء بعده رضي الله عنه وأرضاه، ولايستحق والله كل ذلك الشتم والسب والأذى في قبره وهو بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأقول قبلك ياعمر لم يسلم عرض رسول الله النبي المصطفى، فقد آذوه في نفسه وفي بيته وفي أصحابه وفي سيرته كلها ،ليتأكد لي أننا أمة مبتلاة بالحديث عن أعراضها، ولاأدل على ذلك من حادثتين أحدهما: الإفك التي لم يسلم فيها عرض سيدي رسول الله، وعرض سيدي أبي بكر خليفة رسول الله، وعرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حتى نزل القرآن ببراءة أم المؤمنين، وجاء التوجيه الرباني للأمة المبتلاة بالحديث عن الأعراض من خلال قصة أم أيوب حينما قالت لأبي أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أفكنت يا أم أيوب [فاعلة ذلك]؟ قالت: لا والله. قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن، وذكر أهل الإفك، قال الله عز وجل: ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) يعني: أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال. والأخرى قصة أم المؤمنين صفية بنت حيي إذ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا، أو قال: شيئًا»، والعجب حينما يأتي الشراح والفقهاء ويقررون كما فعل ابن بطال: « في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها صفية)) السنة الحسنة لأمته، أن يتمثلوا فعله ذلك في البعد عن التهم ومواقف الريب»، فالخطأ ليس في تصرف أم المؤمنين ولا ردة فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، والخطأ ليس في تصرف عائشة التي تأخرت لسبب ما فهما موقفان في سياقهما الطبيعي بل الخطأ فيمن يتهم ولم يتثبت، وفيمن يتكلم دونما دليل، والخطأ أن تجبر بريئا على شرح موقفه نتيجة خلل في عقلك وسوء نيتك، والخطأ أيضا من يعتمد على روايات التاريخ المتناقضة في تقييم شخصية مثل أمير المؤمنين عمر التي أثبتت النصوص الصحيحة تزكيته وشهدت له بالجنة رضي الله عنه، وباختصار إن أي أمة لاتعرف فضل من هم مثله فهي أمة مخترقة ومدخولة وهشة ولاتعرف تقييم رجالها ولا قيمة تاريخها الإنساني. كلما تَذكّرت أمير المؤمنين عمر ومبعوث كسرى ملك أقوى امبراطورية في ذلك العصر يبحث عنه، فيجده نائما تحت ظل شجرة وقد تعفر جنبه بالتراب ولم يجِد حوله الحراس والكلاب البوليسية والأبواب الموصدة، أدركت أن أمير المؤمنين في أعلى الدرجات التي لايصلها بشر إلا بمعرفته حقيقة نفسه كإنسان مسؤول يخضع لرقابة شديدة على أدائه في الأمة ويستحضر تلك الرقابة في خلوته أو في المجموع ، وبخاصة أن سيدي عمر لم يستغل توظيف مسائل الهيبة والصبغ بالسواد ومشية الخيلاء، فاستحق كل ماورد عنه من تزكية المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتأييد من الوحي حينما استطاع أن يبني منهجا في الحكم والإدارة ومعاملة الناس وقبل كل ذلك الانتصار على النفس. وهكذَا كان عمر وحِيدا يبكي من خشية الله وأكبر مايهزه كلمة «اتق الله ياعمر «، فإن كان واقفا جلس على ركبتيه وإن كان ماشيا وقف مرتعشا من هول هذه الكلمة، وأقسى ما يستعمله في التأديب هو ضربة من الدرة (عصا) بينما يستعمل الآخرون في التأديب السيف والنطع والخازوق والتمشيط والتجريف والدبابة والبرميل المتفجر والمسدس والمقصلة وأكثروا من السجون والمعتقلات حتى أصبحت لسجونهم أسماء مرعبة كزعبل والمزة وأبي غريب والأعجب من ذلك أنهم أقل بكثير من منزلة أمير المؤمنين ومسؤولياته، أتدرون لماذا؟ لأن أمير المؤمنين عمر اسْتراحَ من حيث معرفته بحقيقة الدنيا الفانية من حيث تعب الآخرون فألقى بجسده المتعب من مطاردة، إبل الصدقة تحت شجرة يستظل بظلها دون حرس واحترازات أمنية ودرك ومصادر أمنية تملأ الشارع العاشر في صورة أذهلت مبعوث كسرى الذي يقارن عمر وهو ملقى تحت الشجرة بكسرى وهو في إيوانه وحوله الريش وطيور الطاووس والأواني الفضية والذهبية والحراس المزركشين، فكان حق عمر الذي كان مؤمناً بالقدر خيره وشره تلك العبارة الخالدة :» عدلت فأمنت فنمت « لأن قدر الله نافذ مهما كانت التدابير التي كان من حق عمر ذي النفس الزكية أن يتخذها آنذاك بسبب الصراعات والمؤامرات. كلما تذكرت أمير المؤمنين عمر حينما أوصى بالخلافة لواحد من الستة وهم عثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص...أشفقت على كل المنتقمين والذين لايتسامحون ولايستحضرون مصلحة الأمة والأنانيون الذين ينتصرون لأنفسهم ويعشقونها حد المهالك ، لم يقل عمر كيف أوصي بالخلافة لعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيدالله وهما اللذان اعترضا على توليه الخلافة بأنه رجل فيه غلظة وقوة على المسلمين حينما استشارهما خليفة رسول الله أبو بكر رضي الله عنه، لم ينتقم لنفسه وقال إنهما حاولا حرماني من الخلافة وهي أعلى منصب شديد الإغراء بل قال إن رسول الله توفي وكان عنهم راضيا ليصرح عمر بمعاييره الموضوعية في اختيار ولايات المسلمين وملخص الواقعة كما في صحيح البخاري (كتاب فضائل الصحابة - باب قصة البيعة حديث رقم 3700) أن الناس قالوا لعمر رضي الله عنه: أوص يا أمير المؤمنين, استخلف, قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ, وسمّى هؤلاء الستة الكرام من الصحابة.. بل إنه أعفى منها ابنه عبد الله، وقال يستشار وليس له حظ في الخلافة ليعطي درسا أخلاقيا فيما تكون عليه المسؤولية في الأمة، روى الطبري: «قال عمر: لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه وأن كان شرا فشر عنا إلى عمر، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويُسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدتُ نفسي وحرمتُ أهلي، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد. وقال: والله لو أن لي ما على الأرض من شيء لافتديت به من هول المطلع..ولذلك لايليق بالمؤرخين أن يذكروا أن سبب عزله خالد بن الوليد كان انتقاما من مصارعة بينهما في الجاهلية لأن من يعرف عمر الذي لم ينتقم لمنعه من الخلافة يدرك أنه لاينتقم من تصرف جاهلي جبه الإسلام تماما، ومن يدرك خشية عمر وحبه لأصحاب رسول الله يعرف أن أمير المؤمنين أرق الناس قلبا وأصفاهم معشرا ومن ذلك أنه صلى بالناس الفجر ثم يقول: أين معاذ؟ فيقول معاذ: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لقد تذكرتك البارحة فبقيت أتقلب على فراشي حبا وشوقا إليك. فتعانقا وتباكيا... كلما تذكرت عمر وهو يقول والله لو أن شاة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لمَ لمْ تعبد لها الطريق ياعمر أشفقت على حال الذين يلقون البراميل المتفجرة على رؤوس شعوبهم، ويتفننون في استعمال الغازات السامة والذين يفرضون حالات الطوارئ ، ولأن عمر كان يسأل نفسه ويحاسبها حتى أصبحت له نظرية المحاسبة في علم الإدارة الحديث لَمْ يكن بحاجة لفتح معتقلات الظلام والقتل برصاصة يدفع ثمنها الأهل، ولم يكن بحاجة لشغل حكومته باستيراد آلات التعذيب والخوازيق التي ملأت مصادر التاريخ حتى تقززت منها صفحاته. كلما تذكرت عمر وقد استوقفته امرأة فقالت يا عمر: كنا نعرفك عميرا فأصبحت عمر ثم أميرا للمؤمنين فاتق الله فينا. فشق عليه قولها حتى أطرق فقام أحد مرافقيه بنهر ترك المرأة فقال ويحك أتقولين هذا لأمير المؤمنين؟ فماكان منه الا أن قال: اسكت ياهذا، هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر حري أن يسمعها..أشفقت على كل مسؤول لا يرقب الله فيمن هم تحت مسؤولياته، ولايسمع لهم ولا يفتح الأبواب للمظلومين، ويكفي أمير المؤمنين صدقا وتقى وزهدا أنه كان يخطب في المسلمين وعليه ثوبان، فقام رجل من المسلمين وقال تعطينا ثوبا وتلبس ثوبين، لم يسكته عمر ولم يتناوشه حراسه ولم يستجوب بل سأل أين عبد الله بن عمر فأجابهم إنه ثوبه وحصته وقد أعطاه أباه لأنه رجل طويل، فبكى الصحابة وبكى كل من في المسجد... ومن كانت هذه خصاله فحري ألا يشتم ولايسب ولايتطاول عليه السفهاء والجهلة، والله من وراء القصد.