يجمع "داعش" بين الفكر المتشدد والسياسة العنيفة أيضا، فهو يقاتل حتى التيارات المتشددة الأخرى لمجرد إخضاعها لنفوذه، وربما يقوم بالتمثيل بالجثث وقطع الرؤوس وصلبها ولو كان أصحابها من المنتمين للمدرسة السلفية الجهادية المتشددة كجبهة النصرة (القاعدة)، ولكن التساؤل هنا؛ ماذا لو كان "داعش" وأمثاله حكيما ومتعقلا في تصرفاته مع منافسيه خاصة بقية التيارات الإسلامية الأخرى؟ هل سيكون "داعش" والقاعدة وأخواتهما وسياساتهم وأفكارهم مقبولة؟ أهم وسائل تقييم الحركات والتيارات هي النظر للمآلات أو الآثار للفكر والأيديولوجيا التي تحملها تلك الحركات، ومن خلال تلك الآثار والمآلات يمكن لنا تقييم ذلك الفكر بوضوح، وسوف أحاول تلمس مآلات الفكر السلفي الجهادي باختصار، وغرضي من هذا والله السعي نحو الوعي والإصلاح والمحاولة لأجل فتح نافذة في النفق المظلم وليس مهاجمة أي تيار. بداية؛ يجب أن أقول إن ميادين القتال غالبا لا ينخرط فيها إلا محدودو الثقافة والفكر، ولذلك من الظلم محاكمة التيارات الفكرية من خلال ممارسات بعض أتباعها في الميدان، وفي نفس الوقت؛ فإن أحداث الميدان تكشف أبعاد تلك الأفكار التي يُنظّرها قادة ذلك التيار ورموزه، وهذه معادلة صعبة، ولذلك فإنه من المهم إهمال التفصيلات والتركيز على الأصول والأفكار العامة لأي تيار، وهذا ما سأحاول العمل عليه. يعتقد الكثير من المحللين أن ما يحصل في سورية هو إخضاع الأفكار السياسية للتيار السلفي تحت الاختبار الواقعي والميداني، وكثير من الصدامات (وليس كلها بلا شك) وقعت نتيجة أفكار أيديولوجية عميقة يؤمن بها ذلك التيار، وهي في مآلها تنتهي بالصدام مع أطراف مكونة أساسية في ذلك الميدان. وبالمناسبة؛ فإن تطرف هذه التيارات لا يقل تطرفا وجنونا من أيديولوجيات الأحزاب الإيرانية، فهي تحمل أفكارا متطرفة تصادم كل التيارات غير التيار المستسلم لشخص الولي الحاكم نيابة عن الله في طهران! وأؤكد أن سبب ظهور هذه التيارات المتطرفة (السنية) هو في الأساس لخلو الساحة من فكر معتدل ومتماسك يمكنه مواجهة تحديات؛ أهمها تحدي مواجهة تيار متطرف ومتماسك آخر (الأحزاب الإيرانية)، ولذلك فإن الفكر الجهادي السلفي هو المرشح الوحيد والجاهز بنظري للوقوف بوجه تطرف الفكر الإيراني، وبين هذا وذاك تضيع الكثير من الحقوق والدماء والعقول! أعود للحديث عن الفكر الجهادي السلفي؛ عند تحليل هذا الفكر؛ نجد أن أهم أدبياته التي يصارع ويُكفّر الآخرين لأجلها؛ 1- تكفير التعاون مع المنظمات الدولية والاعتراف بها، 2- تكفير كل الحكومات والأحزاب المدنية التي لا تطبق الشريعة حسب رؤيتهم، 3- عدم الاعتراف بالحدود والأعراف الدولية. ربما هذه أهم الأصول التي تنطلق منها سياسات هذه التيارات تجاه الآخرين. أما التيار الأكثر تشددا كداعش والنصرة؛ فقد أضافت قتال من لا يدخل في طاعتهم ويستبيحون دمه طالما لم يبايعهم! وهذا جنون لا نحتاج لنقاشه لخروجه حتى عن العقل! أكبر مشاكل التيار الجهادي هو الإيمان العميق أن فكرهم السياسي هو مسلمات غير قابلة للنقد والمراجعة مما يُصعب عليهم حتى استيعاب أبعاد أفكارهم أو حتى التأمل فيها! ولذلك بناء على النقاط الثلاث فوق؛ فإن معركتهم مع كل مخالفيهم قادمة لا محالة، سواء استعجلوها اليوم أم كانوا أكثر حكمة بأن أجلوها لمرحلة لاحقة، وللأسف فإن التطرف يعمي صاحبه؛ فقد استعجلوا قتال جميع أعدائهم تقريبا اليوم، فنجد أنهم يقاتلون كل الجبهات، فهم يقاتلون الأنظمة والقبائل والطوائف وحتى المقاومين من التيارات الأخرى لدرجة قتال التيارات الإسلامية الأخرى! هذه التيارات لا تؤمن بالحدود الدولية مثلا، فتجد بينها جنسيات متعددة، وقتالهم لدول الجوار نتيجة حتمية لفوضى الفكر الذي يحملونه. ولا يؤمنون بحقوق الأقليات والطوائف والأديان الأخرى، ومن المعلوم أن صراعها معها أمر حتمي، وهذا ما جعل عددا من تلك الأقليات تستميت لقتالهم. وجود هذه التيارات له أثر سلبي كبير في إحجام القوى الدولية وترددها في دعم المقاومة المعتدلة في سورية، وأنا لا أقول هذا تبريرا لهم، بل إن أهم أسباب تعاظم التيارات المتطرفة هو بسبب تأخر التدخل وتجاهل المجتمع الدولي لمجازر بشار والتيارات الإيرانية هناك. تساؤل آخر؛ لنفرض نجاح المقاومة في إسقاط النظام البعثي المجرم، ماذا ستفعل تيارات السلفية الجهادية مع الأحزاب الأخرى غير السلفية؟ فضلا عن التيارات التي لا تؤمن بأفكار الإسلام السياسي؟ هل ستقبل تلك التيارات مشاركتهم في الحكم والاجتماع تحت مظلة واحدة؟ أدبيات السلفية لا تقبل هذا الأمر نهائيا، وتعتبره اعترافا بحكم الطاغوت ويجب قتاله، ولذلك فإن المعركة حتمية مع كل التيارات المخالفة لهم! ثم تساؤل آخر؛ ماذا سيفعلون مع الحكومات المحيطة بهم التي يعتبرونها اليوم حكومات لا تُحكم الشريعة حسب رؤيتهم، وهي لديهم من قبيل الحكومات الكفرية الطاغوتية؟ للأسف؛ فإن هذا الفكر المتشدد أينما تأملت في أبعاد أفكارهم؛ فإنك ستصل لنقطة صدامية مع كل ما يحيط به، ولا يمكن له أن يتعايش مع الواقع والمحيط اليوم. بعد هذا العرض السريع؛ ما المخرج؟ الحقيقة أن المشكلة عميقة ولا يمكن حلها بهذه السهولة، ولكن أساس المشكلة هي الجمود الفكري الذي أوصلنا لهذه الأزمة المعرفية أولا، ثم السياسية ثانيا، ولا شك أن كثيرا من أفكار السلفية الجهادية تتقاطع مع أفكار العديد من تيارات الإسلام السياسي الأخرى، وإن كانت لا تنتهج العنف، والنقد والمراجعة أمر ملح وضروري، وإلا فإن الجحيم ينتظر منطقتنا للأبد! أنا أتساءل دائما؛ هل هذه التيارات تمتلك الوصاية على المسلمين من الله؟ هل يزعمون أنهم يمتلكون الحق دون غيرهم؟ علماء أغلب تلك البلدان يدينون الله بفكر وعقيدة إسلامية معتدلة ومختلفة، فهل نقول لهم يجب عليكم أن تدينوا الله بأفكار لا تؤمنون بصحتها؟ هذا السؤال أتمنى مراجعته بشكل جيد، وقد سبق وأن شرحت أبعاده في مقال (التوحيد حسب رؤية الآخرين!).