تضخم وتورم جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السنوات القليلة الماضية لحد بات يشكل خطراً على الدين والدولة والمجتمع على حد سواء، ولذا فإنه من العقل والمنطق أن نناقش وجود جهاز الهيئة بأكمله في شكل حوار هادئ مع معالي رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما يتسم به معاليه من سعة أفق وانفتاح في الفكر وما يبدو عليه من توق وشوق لمعالجة كثير من القضايا بالحوار، وأخيراً وليس آخراً، وطنيته وحرصه على الدين والدولة والمجتمع. بمعنى آخر، لو كان معاليه متزمتاً أو غير منفتح لما فكرنا في كتابة أفكارنا وطرحها على العامة في مجلة رصينة «كاليمامة». خصوصاً أن هذه المقالة تعالج موضوعاً بالغ الحساسية وقابلاً لسوء الفهم والتأويل والتفسير بسهولة وقابل أيضاً، للمزايدات في أمور الدين والوطن أو تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان. في هذا الحوار نطرح فكرة تفكيك الهيئة وحل جهازها تدريجياً لأسباب عديدة منها: (1) أن الحكومة بوزاراتها وإداراتها كافة هي تلك «الأمة» من المجتمع التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كما أن الإعلام والصحافة يقومان بدور واضح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأهم، أن الزمن قد تجاوز فكرة الهيئة كجهاز ولكن لم يتجاوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفضيلة اجتماعية ومجتمعية مطلوبة ومهمة لكل زمان ومكان؛(2) الانحراف الواضح في مسار الهيئة انطلاقاً من محدودية أعمالها حين تأسيسها قبل أكثر من 70 عاماً (1940م) بالنظر إلى البيئة المحيطة حينذاك وصولًا إلى اليوم الحاضر؛(3) التجاوزات الكثيرة والكبيرة والخطيرة من بعض من أعضائها مما يتنافى مع أصل وروح الدين من ناحية، ومع أعراف الهيئة ذاتها، ونقول أعراف لأنها لم تكن تملك قانوناً أو نظاماً يحدد مسؤولياتها وصلاحياتها، إلا مؤخراً؛(4) النقمة والحقد والكراهية من بعض فئات المجتمع على كثرة هفوات وأخطاء بعض منسوبها مما انعكس على سمعة وصورة وقبول الهيئة وأعضائها وأنشطتها؛(5) تشويه صورة الدين والوطن بسبب اعتناق الهيئة وأعضائها منهج هو أقرب إلى قناعات نابعة من عادات وتقاليد سادت ثم بادت في منطقة جغرافية محدودة في الزمان والمكان والإصرار على فرضها كجزء من الدين بتطويع مخل للنصوص الدينية؛(6) انتقاصها من سلطة الدولة لتدخلها في قضايا من مسؤولية مصالح حكومية أخرى وهيمنة رؤيتها على تلك الإدارات؛(7) احتمالية تحولها إلى منظمة عنف مستقبلًا بسبب عدم التزام أعضائها بقانون منضبط وتطبيق مفهوم الاحتساب تجاه ما يرونه متعارضاً مع معتقداتهم. ونطرح هنا عدة مسائل: المسألة الأولى: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمة اجتماعية تتسم بها مجتمعات الفضيلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر عن أفراد مجتمعات الرذيلة الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولذا فهو وصف من الحق سبحانه وتعالى وتفريق بين المجتمعات، ولا يقتصر على أتباع الرسالة المحمدية. ومن هنا نعرف مصطلح المعروف بأنه: كل قول أو فعل أو عمل استحسنه غالبية المجتمع. أما مصطلح المنكر: فهو كل قول أو فعل أو عمل استهجنه غالبية المجتمع. ثانياً، يجدر بنا هنا، أيضاً، تعريف مصطلح «الأمة» بأنها: وحدة الممارسات والسلوك. المسألة الثانية: أننا ننادي ونشدد على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقيمة وفضيلة اجتماعية ومجتمعية يتم غرسها وتحديد مجالاتها للفرد والأسرة والحي والمدينة كنشاط من أنشطة المجتمع فيما لا يتعارض مع الواجبات والمسؤوليات المنوطة بالسلطة التنفيذية. كما يمكن لها أن تتأتى عبر وسائل عديدة، ولكن ليس عبر جهاز حكومي يرتبط بسلطة تنفيذية من خصائصها الإكراه والجبرية، عملًا بالآية الكريمة «لا إكراه في الدين...» (الآية256 البقرة). المسألة الثالثة: أن القيم الاجتماعية والأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية متغيرة في الزمان والمكان، ولذا فما هو معروف في بلد أو مدينة أو مجتمع ما، ليس بالضرورة معروفاً في بلد أو مدينة أو مجتمع آخر، وذات الأمر ينطبق على المنكر، بل إن ما هو معروف في مدينة أو مجتمع قد يكون منكراً في مدينة أو مجتمع آخر. فأفراد مجتمع مكة الذين هاجروا إلى المدينة قد ينكرون أمراً معروفاً لدى مجتمع المدينة، وهكذا. المسألة الرابعة: لو عدنا إلى بدايات نشوء الهيئة وتخيلنا البيئة التي ولدت ونشأت وترعرعت فيها، لاكتشفنا أن الزمن قد تجاوزها تماماً ولم تعد ذات نفع فيما بدأت به إما لأسباب طبيعية في تطور العلم والتقنية أو تطور وتوسع سلطات الحكومة أو تطور وتنوع وتغير المجتمع وحاجاته وممارساته. ولذا بات الإبقاء على جهاز الهيئة غير ذي معنى من الناحية العملية، وأصبح وجوده لأغراض سياسية ينعكس سلباً على الدين والدولة والمجتمع يوماً بعد آخر. المسألة الخامسة: السعودية أشبه بالقارة تجمع مناطق متعددة وأعراف وعادات وتقاليد وثقافات مختلفة وقد تكون متباينة تراكمت عبر قرون، ولذا من الصعب بل من العسير أن يتوحدون جميعاً في عاداتهم وما تعارفوا عليه وما ينكرونه مما لم يعتادوا عليه، فالناس أعداء ما جهلوا. الأمر الثاني، أن في السعودية اليوم أكثر من ثلث السكان جنسيات من جميع أنحاء العالم يأتون للعمل ويشكلون نسبة من السكان مما يعني أن بلدنا لم تعد مقصورة على سكانها الأصليين. الأمر الثالث، أن السعودية دولة منفتحة على العالم ويقصدها التجار والسواح من كل حدب وصوب لغايات متعددة ومن الصعب، بل المستحيل أن يتم توحيد «المعروف» و / أو «المنكر»، إلا في ظل قوانين واضحة ومكتوبة يعلمها الجميع. المسألة السادسة: نجد أن جهاز الهيئة انحرف عن مساره الأساسي الذي سوغ وجوده أو إنشاءه كمؤسسة حكومية لم تعد تقوم على الاحتساب كعمل خيري يرجى ثوابه في الآخرة، بل جهاز بيروقراطي يتورم ويتضخم بشكل متصاعد مما أحدث آثار سلبية على حريات الأفراد والمجتمع ومسؤوليات الحكومة على حد سواء، بسبب التجاوزات المتعددة والمبالغ فيها من أعضاء الجهاز والمنتسبين إليه والمحسوبين عليه على مر العقود أحرجت الدولة وأخرجت المجتمع من معادلة الخير والشر. بسبب عقيدة ومفهوم خاطئ لدى الأعضاء أنه لا يمكن الوثوق بأجهزة الأمن أو سلطات الحكومة المتعددة بدءاً بإمارات المناطق مروراً بالشرط والجمارك وانتهاء بمختلف الإدارات الحكومية ذات التداخل مع حقول ممارسات الهيئة. المسألة السابعة: مع اختلاف الثقافات في السعودية ودخول ثقافات وأعراف جديدة للمجتمع السعودي، ظهرت أجيال جديدة تعلمت وتثقفت وتحضرت وانفتحت على العالم الحقيقي والافتراضي وتختلف جذرياً عن جيل الآباء والأجداد المحدود بقرية صغيرة أو ثقافة محدودة، يضاف إلى ذلك ضعف في الوازع الديني لدى الأجيال الجديدة، كما أنبأ بذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، مما أدى إلى نقمة المجتمع على جهاز الهيئة بشكل يتصاعد باستمرار، لكن هذه النقمة تظل مستترة حتى تقع حادثة تستفز الرأي العام. المسألة الثامنة: دخول المرأة النسق العام لحياة المجتمع بعد عقود من التعليم وانضمامها للعمل والتجارة أمر قديم قدم الزمن، وهو ظاهرة صحية وطبيعية لكنه غير مستساغ من حراس القيم والعادات في جهاز الهيئة وبالتالي أصبح ظهور المرأة هو العقبة الكأداء، أو الكؤود، أمام جهاز الهيئة وما فتئنا نسمع ونرى ممارسات سلبية ضد المرأة في كثير من المدن لا يتسع المقام لذكرها، ومحاولات يائسة لإرغام المرأة على طريقة معينة في الملبس والتسوق والخروج والتنزه والسفر، ولنا في «العباية على الرأس» أنموذج ودليل ساطع على أن ثقافة الهيئة هي ثقافة محلية مستمدة من عادات تتبع منطقة جغرافية معينة لا يتطلب الأمر حشرها في الدين مطلقاً، ولا يجب تعميمها في كل الأزمنة والأمكنة. المسألة التاسعة: إذا أخذنا التطور الذي صاحب عمر الهيئة منذ العام 1940م حتى الآن، ونظرنا حولنا في دول ومجتمعات يمكن لنا أن نجادل بأن هناك إمكانية كي يتحول جهاز الهيئة إلى تنظيم عنف لتحقيق غايات وأهداف متحمسين أو متطرفين من داخله أو خارجه. فجماعة الإخوان المسلمين ظهرت كجماعة دعوية خيرية على مدى عقود لكنها تشبثت بالسياسة قليلًا قليلًا حتى خرجت عن مسارها ومدارها. نحن لا نخاف اليوم من جهاز الهيئة الذي يدار بعقول واعية مدركة ومنفتحة، بل من مستقبل يتم فيه اختطاف الجهاز واستغلال فكرة الهيئة لجعلها شوكة في نحر الدولة والمجتمع بحجة أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعملاً بحديث شريف يأمر بالتغيير باليد أو اللسان أو القلب. المسألة العاشرة: ما طرحناه سابقاً، هو اجتهاد شخصي ومخلص، فإن وافق خيراً وصلاحاً فلله الحمد والمنة، وإن كان غير ذلك فنستغفر الله ونحمده أيضاً. أخيراً، نحن نجزم بأن غالبية المنتسبين لجهاز الهيئة هم مواطنون صالحون وشرفاء ونيات سليمة ومقاصد شريفة، لكننا في زمن متغير متلون متذبذب لم تعد فيه القناعات الشخصية والمحلية هي الحاكمة، بل اختلط المحلي بالإقليمي بالدولي والعالمي، ولذا نهيب بالقيادة السياسية والقائمين على جهاز الهيئة، حل جهاز الهيئة تدريجياً ولنقل خمس سنوات والتفكر في أمر هذه الدولة والمجتمع وقبل ذلك أمر الدين والرسالة العالمية وليس المحلية المحدودة الزمان والمكان. ختاماً، نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وقيادتنا التي تقودنا إلى المعالي، وفقهاءنا الذين يدلونا على الخير والصلاح، ومجتمعنا الخير الطيب. والله من وراء القصد.