محمد المزيني أثار اكتتاب البنك الأهلي ما كان يتوارى ويشتعل بصمت في قلوب بعض الاتجاهات الإسلامية الحركية، من خلال استثارة ضغينة البسطاء تجاه البنك بأساليب ملتوية ملتفّة على هيئة كبار العلماء بسؤال كتب بصيغة تحريضية لتنتزع الفتوى الجازمة بتحريم المساهمة في البنك، وقد جاءت صياغة السؤال وفق الأساليب الصحوية المتبعة سابقاً، حيث تدس كل المبررات والدلائل والمستمسكات الشرعية وفق تصور السائل للاحتيال بها على المفتي، لسحب الفتوى عنوة بالاتجاه ذاته، ظلت هذه الوسيلة الطريقة الناجعة ردحاً من الزمن الصحوي لتوجيه المجتمع البسيط وفق إرادتهم، وقد تحقق لهم ذلك، إذ باتت الفتوى متداخلة بتفاصيل حياة الناس، وأقحمت في أكلهم وشربهم حتى في أحلامهم وكوابيسهم، حتى صرنا نسمع في كل حين عبر الفضائيات التي تكاثر فيها المفتون أسئلة مضحكة، لذلك بدت مجتمعاتنا خائفة من كل شيء ومتشككة حتى في نفسها، لقد بدت الفتوى اليوم كالصنانير التي تصطاد بها الأسماك الصغيرة، ثم غدت أشبه ما تكون في صياغاتها كاللعبة التي يتحايل بها الحركيون علينا، فلما استحكم الأمر لهم واستفحلت تلك الأشواك من جسد مجتمعنا صاروا يرمون بشباكهم الكبيرة إلى عمق مصالح المجتمع وحياتهم. هذا متى كانوا لا يستنفعون منها، ولم يروا فيها عوائد مادية مجزية لهم، وقد رأينا كيف ارتمى بعضهم في أحضان لعبة الأسهم عام 2006، التي لا يشبهها إلا لعبة الروليت واستدرجوا السذج من الناس على خلفية صلاحهم وورعهم للدخول معهم في لعبة هذه الأسهم، الخاسرة، من بين هؤلاء اللاعبين تحت غواية الثروة ممن وصفوا بالمجاهدين، إذ جاؤوا من طلب الشهادة في أفغانستان إلى طلب الدنيا في صالات أسهم البنوك، حتى أثروا منها ثراء فاحشاً، لم يكن هؤلاء يحرمون على أنفسهم التعامل مع هذه الأسهم المشبوهة، كما لم يقدم سؤالاً بصياغة تحريضية لتحريم المساهمة في الشركات والبنوك التي تتعامل بالربا، كما يحدث اليوم، كما لم يستتبع ذلك تحريم للبنوك التي تتم كل الاستكتابات من خلالها. نحن اليوم فريسة لعشوائية الفتوى التي لم يراعِ المستفتون فيها قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار)، ليس هذا فحسب، فكما أن الأعمال بالنيات أقول مؤكداً: نحن لا نتهم أحداً بعينه في نواياه بقدر ما نحاول قراءة ما وراء الأكمة، تلك التي تشي من خلال الفتاوى بما هو أبعد من العشوائية تصل إلى «استلابها» وتجييرها لمصلحة اللعب على آخر الأوراق السياسية المضمرة المتبقية في جعبة عرابي الصحوة ومجنديهم الصغار. العجيب والأمر الغريب في فتوى البنك الأهلي بوصفها آخر مستجدات هذا اللعب، أن بعضَ مَنْ صادق على هذه الفتوى يعملون مستشارين لدى كثير من البنوك التي تحولت بفضلهم من بنوك تقليدية إلى بنوك إسلامية، وعلى أساسه تدافع الناس للاقتراض المحموم تحت مسميات إسلامية متعددة (تورُّق، مرابحة، مشاركة، استصناع، التأجير مع وعد بالتملك)، من دون معرفة الفروق بينها، فما يهم وفق ما تمليه العاطفة الدينية الجياشة أن ينصب بينهم وبين النار مفتٍ. عندما صدرت فتوى اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء انساق هؤلاء البسطاء حرفياً وراء الفتوى بمثل ما استسلم علماؤنا الأفاضل لخدعة السائل إبراء للذمة وخلاصاً من تبعات ما ورد في السؤال، لذلك لم يمنع هذا من وقوع إشكال بين كبار المفتين أدى إلى خلاف بين اللجنة الدائمة وفتاوى أخرى لعلماء كبار لهم اعتبارهم العلمي والشرعي، منهم الشيخ عبدالله المنيع الذي أدلى برأي جريء يحسب له تناقلته وسائل الإعلام مفاده: أن بنك الأهلي من البنوك التي اتجهت اتجاها صادقاً نحو الأخذ بالمصرفية الإسلامية، وتحوله إلى «إسلامي» 100 في المئة، وجميع فروعه البالغة قرابة 500 فرع «إسلامية»، وليس فيها أي أعمال ربا. ومقابل ذلك، أكدت الهيئة الشرعية في البنك الأهلي التجاري في بيان لها، أن الاكتتاب في أسهم البنك الأهلي التجاري سائغ شرعاً ولا حرج فيه. اليوم وعبر سنوات انصرمت استغلت خلالها الفتوى سياسياً نشهد ملامح انشقاق كبير بين المعارضين بفتوى والمؤيدين بفتوى تنتقض عليها، لم يكن البنك الأهلي مقصوداً بعينه، فلم تطلب هذه الفتوى لبنوك أخرى، إنما هي في حقيقتها نتيجة تمحيصية لتجربة طويلة ما بين شد وجذب بين اتجاهات صحوية مغرضة واتجاهات وطنية منصفة، والأخيرة تحديداً ليس المقصود فيها تحديدا هو البنك الأهلي بقدر ما هو إيقاع المواطن في إشكالية تورطه في صراع ومجابهة مع الدولة بوصف البنك الشريك مع عدد من المؤسسات الحكومية من بينها المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، ذات المسؤوليات الواسعة والخدمات الكبيرة التي تقدمها للمجتمع السعودي، فهل يجرؤ طالبو الفتوى استتباعاً طلب فتوى أخرى بتحريم كل المستحقات التقاعدية والتأمينية والإعانات الشهرية للمستحقين على اعتبار ارتباطها الوثيق بالبنك الأهلي، ثم هل سيحرمون على المجتمع التعامل مع البنوك برمتها، بعدما أصبحت واقعاً متحكماً بمفاصل حركة الاقتصاد السعودي؟ هل يستطيع مشايخ الصحوة مثيرو فتنة الفتوى المغرضة التعفف عن رواتبهم ومكافآتهم وحوالاتهم وأرصدتهم المالية المودعة لدى هذه البنوك؟ بالله كيف يجرؤ هؤلاء على الضحك على عقولنا؟ هل رأونا بهذا الحجم من الضآلة والسذاجة؛ كي يمرروا علينا اتجاهاتهم الديماغوجية، وعلينا أن نصدقهم بعدما كشفتهم أحداث الزمن الماضي؟ لعلهم أرادوا منها فقاعة اختبار تجريبية، لقياس مدى تأثيرهم في المجتمع بعد كل النكسات التي مُنوا بها، أو لربما هي مؤامرة خفية لتأليب الناس ضد وطنهم من خلال تقويض مؤسساته، ولعل أقربها إليهم مصدر رزقهم. ما نلتمسه من اللجنة الدائمة أن تمحص كل ما يأتيها من استفتاءات؛ كي لا توقع المجتمع في مطب وعر، فما سيصدر من اللجنة سينسب حتماً إلى الدولة وهنا منغز آخر قد تؤتى من خلاله، بحيث تصطدم الدولة بمؤسساتها، وهو -بحد ذاته- هدف آخر خبيث.