لم يذق أهالي العسكريين المختطفين لدى مسلحي «جبهة النصرة» و«داعش» طعم النوم، منذ يوم السبت الماضي. فالبيانات والمواقف التي توالت منذ ذلك الوقت مهددة بتصفية العنصر في قوى الأمن الداخلي الأسير علي البزال، وبعده العسكري الأسير جورج خوري، وربط عملية التنفيذ بمسار المعارك في مدينة طرابلس (شمال البلاد)، مما جعل الأهالي، وبالتحديد أفراد عائلتي خوري والبزال، يذوقون مرارة موت أبنائهم ألف مرة قبل أن تحصل. ودخلت «النصرة» مباشرة على خط المعارك المحتدمة بين الجيش وعناصر مسلحة في أكثر من منطقة شمال البلاد، خاصة بعدما أشيع عن أن «أمير النصرة» في القلمون أبو مالك التلّي هو من يدير هذه المعارك. واعتمد التنظيم المتطرف استراتيجية «اللعب بأعصاب» الأهالي والرسميين اللبنانيين، من خلال إصدار بيانات والإدلاء بتصاريح جاءت بمعظمها متضاربة؛ فبعد البيان الذي طمأن الأهالي إلى تأجيل عملية ذبح البزال، صدر بيان في ساعة متأخرة من مساء أول من أمس يؤكد أن العملية ستُنفذ فجر أمس، وبالتحديد عند الساعة الخامسة، مما أدّى لانهيار أفراد عائلة البزال وخوري، بعد إدراج اسم الأخير أيضا على «لائحة الذبح». وأُغشي على والد البزال أكثر من مرة مباشرة على الهواء، بينما فقدت شقيقة خوري أعصابها، وأصيبت بنوبات متكررة، مما اقتضى نقلها إلى المستشفى. وتحولت الخيام الـ9 في الاعتصام الذي ينظمه الأهالي منذ أكثر من شهر في ساحة رياض الصلح، وسط العاصمة بيروت، إلى خلية نحل طوال ساعات ليل الأحد وفجر الاثنين، فنشطت الاتصالات والوساطات لإلغاء العملية، خاصة بعدما أُجليت مئات العائلات من منطقة باب التبانة في طرابلس، مما فُسّر على أنه تحضير لتوسيع المعارك، وبالتالي تعقيد وضع الأسرى العسكريين. وأشار الأهالي الذين بدوا صباح أمس أكثر هدوءا بعد ليل «مأساوي طويل» إلى أن النائب في تيار المستقبل هادي حبيش زارهم مساء، واتصل مباشرة بالنائب في الكتلة نفسها، خالد الضاهر، الذي توسط لدى الشيخ مصطفى الحجيري، وهو من كان يدير مفاوضات ملف الأسرى العسكريين بعيد اختطافهم في أغسطس (آب) الماضي. وأوضحت داليا ديراني شقيقة العنصر في قوى الأمن الداخلي الأسير سليمان ديراني، التي التقتها «الشرق الأوسط» في ساحة الاعتصام، أن الحجيري توجه بعد منتصف الليل إلى جرود عرسال، حيث التقى الخاطفين، متمنيا عليهم إلغاء عملية ذبح البزال، وهو ما أتى ثماره، بعد جهود بذلتها هيئة العلماء المسلمين للغرض عينه. وتوقعت ديراني أن يكون لدى الخاطفين قرار بعدم التعرض للعسكريين، وأن يكونوا «يهددون ويتوعدون لتحسين شروط المسلحين في طرابلس، ليس إلا». صابرين زوجة الرقيب أول في قوى الأمن الداخلي المخطوف زياد عمر وافقت ديراني على رؤيتها للأمور، إلا أنها اعتبرت أن الإشكالية الأساسية غياب الضمانات وتشعب الأطراف المعنية بالملف، متسائلة: «ما الذي يمنع تصفيتهم دفعة واحدة، في حال تعرضوا لضغط أمني، أو جاءت تعليمات خارجية لقتلهم؟». صابرين التي تترك منزلها الكائن في منطقة البقاع شرق البلاد وابنتيها التوأم يوميا الساعة السابعة صباحا، للتوجه إلى الاعتصام في وسط العاصمة بدت بالأمس مرهقة إلى أبعد الحدود، فهي لم تتمكن من النوم ولو لساعة واحدة بانتظار حلول الساعة الخامسة فجرا، الموعد الذي حددته «النصرة» لإعدام البزال. وفاقمت الصور التي نشرتها وكالة الأناضول التركية، قبيل منتصف الليل، للعسكريين المختطفين من حالة صابرين وباقي الأهالي، باعتبار أن أبناءهم وأزواجهم بدوا بحالة يُرثى لها. زوج صابرين الرقيب عمر بدا في الصور وهو يسير حافي القدمين. ورغم أنها شاهدت هذه الصور مئات المرات منذ وصلوا إليها، إلا أنها أجهشت بالبكاء أثناء محاولة عرضها علينا، قائلة: «انظروا كيف كان في هذه الصورة، وفي أي حالة هو اليوم.. لقد خسر وزنه. لا شك أنهم لا يطعمونهم». أمهات العسكريين وزوجاتهم جلسوا خارج خيامهم، أمس، إلا أن التعرف على والدة علي البزال، لم يكن بالأمر الصعب. الكل يلتف حولها، يواسيها حاملا إليها آخر المستجدات. هي تنفست الصعداء بعد أن وصل إليها عند الساعة العاشرة صباحا خبر تأجيل عملية إعدام ولدها التي كانت مقررة الخامسة فجرا. التعب والهم والمأساة تركت آثارا على وجهها وفي عينيها، لا شك أنها لن تزول إلا عند رؤية ولدها. فحِمل الحاجة الخمسينية أكبر من أن يُوصف، وكأنه لا يكفي أن ابنها الاسم رقم «1» على لائحة الذبح، ليكون ولداها الآخران، وهما عسكريان في الجيش، على الجبهات المشتعلة؛ فإحداهما موجود حاليا في طرابلس التي شهدت معارك دامية سقط فيها عدد من الجنود والضباط، والآخر في جرود عرسال، حيث أخوه المخطوف على بعد كيلومترات منه، وهو غير قادر على إنقاذه. «وكأن هموم الدنيا كلها حلت عليّ.. وكأنها تتقصدني. كلما تأزمت الأمور يهددون بذبح علي.. وفوق ذلك كله لا أحد يراعي أوجاعي، فيرسلون ولدي الآخرين إلى أكثر الجبهات خطورة»، تقول أم علي التي تبدلت ملامحها فورا ما إن أبصرت ولدها الرابع، وهو أيضا عسكري، جاء للاطمئنان عليها. تنزوي وإيّاه خلف إحدى الخيام، ويطول الحديث. وبين حديث وآخر معلومات يمررها الأهالي، مشددين على وجوب عدم نسبها إلى أحد منهم. فإحدى الأمهات اللواتي يحتجز «داعش» ولدها العسكري تنقل عن جندي خُطف بوقت سابق من قبل التنظيم وأفرج عنه، كونه أحد أبناء بلدة عرسال، وهو كمال الحجيري، أن الخاطفين يهددون الأسرى لديهم يوميا بالذبح، فيعصبون عيونهم ويكممون أفواههم، لإيهامهم بأنهم يقتادونهم للذبح، كما أنهم يجبرونهم على حفر قبورهم بأيديهم. ويحسد أهالي الأسرى المخطوفين لدى «داعش» أهالي أولئك المخطوفين لدى «النصرة» باعتبار أنهم يسمعون أخبارهم ويرون صورهم بين الفينة والأخرى، كما يتابعون مسار المفاوضات عبر الشيخ الحجيري. وتقول إحدى الأمهات: «صمت (داعش) يخيفنا»، لافتة إلى أن المطلب الأساسي للتنظيم المتطرف هو تأمين ممر آمن لعناصره من القلمون إلى القنيطرة. وكان عدد من الأهالي نجحوا بلقاء أبنائهم المختطفين لدى «النصرة» في الأشهر الـ3 الماضية بوساطات قادها الحجيري، إلا أن مبالغ مالية كبيرة دُفعت لعقد هذه اللقاءات، لم تتمكن باقي العائلات من تأمينها، بحسب ما تؤكده إحدى الأمهات. وفي ساعات ما بعد الظهر، تلقت زوجة العسكري المخطوف لدى «داعش» خالد مقبل اتصالا هاتفيا منه يقول فيه إنه سيُذبح وزميلاه سيف وذبيان عند الساعة الثامنة من صباح اليوم، ليعود الأهالي إلى توترهم السابق بانتظار عدّ عكسي لا ينتهي.lh