لا أظن أن هناك دولة في العالم لديها هذا الكم من الكليات والمعاهد المهنية وهذا الفقر الشديد في اليد العاملة المهنية الوطنية، فنحن من أكثر بلدان العالم استيراداً لليد العاملة. مضى على تأسيس المعاهد المهنية ما يزيد على 50 عاماً منذ افتتاح المعهد الملكي بالرياض وقبل ذلك المدرسة الصناعية بجدة، وتغيرت المرجعيات مع مرور السنوات، فمن التعليم الفني بوزارة المعارف إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والمؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني إلى أن تعدل مسمّاها إلى المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وتحوّلت المعاهد إلى كليات تقنية والمدارس الصناعية والتجارية إلى معاهد مهنية، حيث يتجاوز عددها الآن 120 كلية ومعهداً للبنين والبنات، وتم إطلاق كليات التميّز مؤخراً بالتعاقد مع كليات عالمية متخصصة. فهل كنا بحاجة إلى كل تلك التجارب والتغييرات، والتوسع في المعاهد والكليات، بكافة تخصصاتها. والأهم أين أثر ذلك في سوق العمل وأين المهنيون والفنيون السعوديون خريجو المؤسسة؟. إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا كنسبة وتناسب لا أظن أن هناك دولة في العالم لديها هذا الكم من الكليات والمعاهد المهنية وهذا الفقر الشديد في اليد العاملة المهنية الوطنية. فنحن من أكثر بلدان العالم استيراداً لليد العاملة غير المدربة، حتى أضحينا أكبر مركز تدريب في العالم. فمن السائقين وعاملات المنازل مروراً بالسباكين والميكانيكيين وصولاً إلى الأطباء والمهندسين والكتبة والمحاسبين، كل أولئك وغيرهم فتحنا لهم منازلنا وشوارعنا ومنشآتنا المختلفة ومشافينا ليتدربوا فيها ويتقنوا المهن التي تعلموها في بلدانهم ولكن لم يمارسوها على الواقع، حتى غير المتخصصين منهم أتقنوا بعضاً من هذه المهن من خلال مثابرتهم وحرصهم على التعلم حتى انطبق علينا وعليهم المثل القائل (يتعلم الحلاقة في رؤوس اليتامى). السؤال الذي يفرض نفسه كيف ساهمنا في تدريب وإعادة تأهيل هذا الكم الكبير من الوافدين وعجزنا عن تدريب أبنائنا ومنحهم الفرصة نفسها، فهل مرد ذلك إلى السلوك وليس المهارة، فالعامل المستقدم إذا كان لا يجيد المهنة المستقدم من أجلها يثابر على تعلمها وإتقانها ويتحمل العوائق والمشاق في سبيل ذلك، كما سيحاول تعلم مهارات أو حتى مهن أخرى لأنه يرى أن هذا العمل هو الحلم الذي سعى لأجل تحقيقه سنوات وضحى وبذل كثيراً للحصول على التأشيرة فلن يفرط في ذلك مهما كلفه الأمر. لا أتحدث هنا عن الأمثلة والنماذج السيئة بل أتحدث عن أولئك المنضبطين في أداء أعمالهم، الملتزمين بمواعيدهم، النافعين لأهلهم، والمساهمين في اقتصاد بلدانهم. كل ذلك يتم وما زالت مؤسساتنا الحكومية المعنية بالتعليم والتدريب تتحدث عن استلهام تجارب عالمية، أما أنا فأقول: إن طموحي لم يعد استلهام التجربة اليابانية أو التجربة الفنلندية بل الاستفادة من تجربة هؤلاء الذين يعيشون بين ظهرانينا بينما نحن ننتقدهم ونقلل من شأنهم ونؤلب عليهم، مع أننا نحن الذين استقدمناهم أصلاً. نفعل ذلك دون أن ندرك وتدرك مؤسساتنا التعليمية أن ما يحتاجه سوق العمل هو الانضباط أولاً. ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم الله يعلم أني لم أقل فَنَدا فهل يتم التركيز على المرجعية السلوكية قبل الجوانب المهارية وهل نعي أن الانضباط في العمل والالتزام بمواعيد النوم والاستيقاظ وتناول الوجبات والحضور والانصراف وهي أشياء تبدو بسيطة ظاهرياً لكن آثارها حوالي 9 ملايين عامل وافد، ونسبة بطالة تصل إلى 12% ، وتحويلات مالية من العمالة الوافدة تصل إلى 150 مليار ريال سنوياً، إضافة إلى مئات المليارات للصرف على برامج مكافحة البطالة. وبعد كل هذه البرامج هل نجرب «ضابط»؟!