نتحدث دوما عن أننا أكثر الناس التزاما بتعاليم الدين، وتمسكا بأخلاقنا العربية الأصيلة، كالشهامة، والكرم، والوفاء، ولكن هناك من يكتفي بالحديث عن ذلك، ولا يطبقه عمليا، وقد خطر هذا على بالي عندما حدثني صديق عن معاناته بعد التقاعد، بعدما خدم الوطن لعشرات السنين، وأفنى زهرة شبابه في سبيل ذلك، وقد تقاعد وهو على مرتبة عالية جدا، ومع ذلك فإنه لاقى صلفا، أثناء مراجعته لأحد أكبر مستشفيات الوطن، والتي كان يتعالج فيها طوال حياته الوظيفية، فقد تغيرت المعاملة، بعدما تقاعد، واعتقد الموظفون هناك أنه لم يعد مهما، فأهميته، حسب هؤلاء، تنبع من منصبه الرفيع، وسلطته الوظيفية، لا من خدمته للوطن، وأخلاقياته العالية، فالتعامل الرفيع يكون مصاحبا للمنصب الرفيع حسب هؤلاء!، ولولا تدخل أحد الكبار الذين يعرفونه جيدا، ويعرفون إخلاصه، وولاءه، وخدماته الجليلة التي قدمها لبلده، لربما حرم من التطبب، والعلاج!. حكى لي قصته بمرارة شديدة، ولم يكن مستاءً من المعاملة السيئة التي واجهها في ذلك المستشفى، فقدراته المالية توفر له العلاج في أرقى المستشفيات، بل كان مستاء من تدني أخلاقيات بعض الموظفين، وربطهم للخدمات، بما فيها الصحية، بالمنصب، والنفوذ، وهو الأمر الذي لا يتماشى مع تعاليم ديننا، ولا مع أبسط أبجديات الأخلاق العربية الأصلية، والتي توارثناها كابرا عن كابر، ومثل هذا يحدث في قطاعات أخرى، ومع أن هناك الكثير من الموظفين المميزين، إلا أن المؤلم أن ما حصل مع صاحبي أصبح سلوكا شائعا، وأصبحنا نلحظه بوضوح، فصديقك الخاص يتغير عليك، بمجرد أن يكون في موقع هام، أو يكون لك لديه حاجة، ولا تصفع مثل هؤلاء إلا مفاجآت الليالي، وتقلبات الدهر، ولا زلت أذكر أحدهم، والذي ما إن ارتفع بجناحيه، حتى أصبح طاووسا على شكل إنسان، حتى مع أقرب المقربين إليه، وعندما أدارت له الدنيا ظهرها، رأيته ذات يوم في مناسبة، وهو يتلفت، بحثا عمن يرد عليه السلام دون جدوى، ومثل هذا كثيرون، ولكن ما يطمئننا هو أن الدنيا لا تزال بخير، وأن أهل القيم، والمبادئ، والأخلاق لا زالوا بيننا، ولكنهم يتقلصون مع مرور الوقت، فلم يعد الزمن هو الزمن، ولا الناس هم الناس، ولعلي أختم بهذه المقولة العظيمة لسيدنا علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه: «إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه»!.