ذكر أحد الكتاب العالميين قصة في ألمانيا استغرب منها جداً وهو أمريكي، فقد قطع الطريق من مكان غير مخصص للعبور فانقضت عليه سيدة عجوز بدون مناسبة وضربته ضرباً مبرحاً بمظلتها وهي تصيح» قاتل الأطفال! قاتل الأطفال! فلم يفهم قصدها لأنه لم يسبق له أن اعتدى على طفل في حياته، كما أنه محب للأطفال، رفيق بهم ورقيق معهم. فاستفسر عن هذا السلوك الغريب من العجوز من أحد زملائه الألمان، فأجابه: العجوز قصدت أن الأطفال سيشاهدونك ويقتدون بك ويقلدونك فيتعرضون للدهس والقتل. فالقدوة سيئة كانت أم حسنة مهمة جداً في أي مجتمع، وليس في المجتمع الألماني فقط. فالإنسان يتعلم بالمحاكاة أكثر من المدرسة ويتأثر بها في كافة مناحي حياته. ولذا فشركات الإعلان تستغل شخصيات بارزة في المجتمع في التأثير على السلوك الاستهلاكي للأفراد لأنهم ينزعون لمحاكاتهم. وكي نفهم قضايا المجتمع وسلوك الأفراد سواء كان ذلك إيجابياً أو سلبياً علينا فهم ظاهرة المحاكاة، ولنفتش عن القدوة. فعندما يقدم شخص ذو مظهر صلاح، أو علم، أو وجاهة على قطع إشارة مرورية مثلاً فقد لا يعي أنه سيكون قدوة للكثيرين الذين قد يشاهدونه دون أن يحس بذلك. وعندما يقدم مسئول في جهة ما على ممارسات غير مشروعة في عمله، فعلينا أن نتأكد أن العدوى ستصل حتماً لزملائه ومرؤوسيه، ومن يتعامل معه وربما لجهات خارج مؤسسته، ولن نلبث إلا حولا أو حولين لنرى سلوكيات الفساد الإداري وغيره متفشية في المجتمع. وعندما يحصل مقاول كبير على عقد ما من منافسين آخرين له ثم يرسيه على جهة أخرى بسعر أقل فعلينا أن نتوقع أن المقاول الباطني الثاني سيبحث هو أيضاً عن مقاولين آخرين أصغر منه بشروط مشابهة، ومواصفات أقل حتى تتقلص ميزانية المشروع ومواصفاته للحد الأدنى عند وصولها للمقاول الأخير، ويكون ذلك على حساب الوطن ومستقبله. وإذا كان العامل مع المقاول وافد فهو أيضاً سيبحث عن طرق عبقرية للتحايل على أنظمة البلاد، والظفر بنصيبة من كعكة التحايل. وعندما يقوم الأب بقيادة سيارته بشكل أناني مزعج للآخرين ومتعارض مع قوانين المرور وآداب الطريق فثق عزيزي القارئ أن ابنه المراهق، وأبناء جيرانه، ومن يركب معه، ومن يلحظه سيقود سيارته بشكل أكثر تهورًا وخطراً حتى تضحى القيادة بتهور سمة مرورية طاغية وتتحول حالة المجتمع المرورية إلى فوضى عارمة. وعندما يقدم شخص ما على الإفساد بالبيئة بشكل مستهتر ويستعرض ذلك سراً أو علناً فإن كل أصدقائه ومن حوله سيعتبرون الإساءة للبيئة بقتل الحيوانات أو اقتلاع الأشجار مهمة مسلية، وعمل يتفاخرون به، فيفرغ القوم شحنات غضبهم وساديتهم في ايذاء المستضعف من الكائنات، ويتحول أي حيوان وديع إلى هدف مشروع لهم حتى تنقرض فصيلته. وعندما يقوم المواطن بإلقاء زبالته في الشارع من نافذة سيارته، أو إلقاء زجاجات المشروبات الفارغة، أو أكياس وأغلفة الطعام في الطريق فسيحاكي هذا السلوك المشين الطفل والمرأة وألوف السائقين الأجانب الذين ربما أحجموا عن فعل ذلك في بلادهم. فعدم اكتراث البعض منا بسلوكه أوصلنا إلى ما نحن فيه، فأصبحنا أفرادا مشتتين تجمعنا رقعة جغرافية فقط وليس مجتمعا واحدا متكاتفا ومتآزرا، فاصبحت حدود بيئة الفرد منزله حصراً، وأصبحت نوعية المشاريع التي ينفذها البعض لوطنهم بسبب قصر النظر وانعدام الأمانة لا تهم إلا من حيث كونها تجلب المال بأي أسلوب. فبعض من ينفذون المشاريع الوطنية الحيوية باختزال مواصفاتها وجودتها يناقضون ذلك ويغيرون نظرتهم للمواصفات عندما يستثمرون الذي حصلوا عليه بطرق ملتوية من المشاريع العامة في مشاريعهم الخاصة. وقد لا نستغرب أن يبني صاحبها مسجداً بالقرب من سكنه ليكفر به عما يعتقد أنه تجاوز بسيط على مال مشاع، وأنه منطقة رمادية في الشرع والأخلاق، فهو يرغب حقيقة أن يتجاوز الله عنه كفرد في الآخرة ويشيد به الناس في الدنيا. فمعايير الحفاظ على المال العام قد تختلف في عرف البعض عن معايير الحفاظ على المال الخاص. وكذلك قد يغمط بعض الناس حق الآخرين في الطريق ويمارس ما سبق ذكره من إساءات للبيئة والأنظمة ويتصرف بشكل أناني، لكننا نجده في الوقت ذاته يحرص أن يراه الناس في المسجد، وعلى أن يقال عنه إنه كريم فعال للخير. فالبعض يسبق الناس للصلاة وهو لا يتذكر الحكمة منها. ففي الصلاة عظة وتذكرة، تذكرة بالامتناع عما يغضب الله من سلوك في التعامل مع الآخرين، وتذكير بحقوق الآخرين في التعامل الإسلامي المثالي. تذكير بالحفاظ على الماء، وتذكير بضرورة الرفق بالحيوان، وتذكير بضرورة إماطة الأذى عن الطريق، وتذكير بالعدل بين الرئيس والمرؤوس وتذكير بالامتناع عن التطاول على المال العام. فإن لم تكن كذلك تحولت الصلاة لطقس يومي يؤديه الفرد خمس مرات في اليوم. وفي هذا المقام أود أن أسوق قصة أخرى من مجتمع غير مسلم للأسف وتتعلق بجدل فلسفي حول الإيثار والاستئثار، وهل الإيثار فطرة بشرية، وقد قال عنه الله جل وعلا: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (9) سورة الحشر. فهي ما يجعل الغني يعطف على الفقير، والقوي يرفق بالضعيف، وهي ما يجعل بعض الأثرياء من غير المسلمين يتبرعون بمعظم ثرواتهم، ويدفع الكثير منهم للتبرع لمشاريع عامة ضخمة في أوطانهم، أو القيام بجهود للحفاظ على الحيوان والنبات بدافع ذاتي. فهناك من يرى الإيثار طبيعة بشرية. فقد كان الأستاذ في الجامعة ينكر أمام طلابه كون الإيثار طبيعة بشرية ويرى أنها سلوك مكتسب دافعه استجداء محبة الناس وهو في حد ذاته منفعة، أي أن الإيثار قضية نفعية غير مباشرة، بينما يرى بعض الطلاب أنها جبيلة جبل الإنسان عليها بالفطرة. فخرج أحد الطلاب ووجد دودة على الرصيف فأعادها للحقل حتى لا يدوس عليها الناس، فاتسخت يداه إثر ذلك فذهب للأستاذ وقال انظر ليدي وقد فعلت كيت وكيت لأنقذ دودة، أليس هذا إيثار؟ فرد عليه الأستاذ: كانت إيثار قبل أن تخبرني به! وأضاف الإنسان بطبعه يحتاج أن يتكلم الناس ويحبوه ولذا فهو يتصرف على هذا النحو علنا ولكن المقياس الحقيقي للإنسان هو ما يعمله في الخفاء وليس في العلن. وليس أفضل مثال على ذلك ممن يدمرون بيوتهم سراً بحجة إصلاح بيوت الناس علناً. وعندما يصل المجتمع إلى حالة عدم الاكتراث, وانعدام الإثرة والإيثار والتكافل الحقيقي يصل إلى مرحلة من الفردية والأنانية المدمرة، فيبدأ أفراد قليلون باكتناز مقدرات المجتمع حتى ولو تسببوا للآخرين بالخصاصة. فالتظاهر المفرط من علامات الاستئثار البغيض، حيث يرى الفرد أن قيمته هي في أنه يمتلك ما لا يمتلكه الآخرون ويحس في ذلك سعادة زائفة. لكن مقاييس السعادة الحقيقية لدى العلماء المتعمقين في معرفة النفس البشرية تختلف، فهم يرون أن الإيثار في عمق الأمور يجلب السعادة أكثر من الاستئثار، فالمقاول الذي أنجز طريقاً مثالياً لوطنه هو أسعد من مقاول الاستبطان، فالأخير يحس في قرارة نفسه بتفاهة أمره حتى ولو ركب أفضل العربات ولبس الذهب والجوخ تبقى نفسه من الداخل فارغة جوفاء إلا من المادة. ولذا فمفهوم السعادة يختلف حسب المستوى التعليمي للفرد، وهو ما يفسر تفشي مظاهر التفاخر في الدول المتخلفة أكثر من غيرها. أليس بعض الأغنياء يغبطون الفقراء أحياناً على خلو بالهم وسعادتهم الحقيقية؟ ففي المجتمعات المستقرة لا يمكن أن تكون السعادة فردية، والمجتمع برمته هو الذي يختار أن يكون سعيدا أم لا وليس الفرد، ولن يكون كذلك إلا بتناغم أفراده وتكاملهم مع البيئة من حولهم. فمتى نعتبر؟ ومتى نكترث؟