«نادرا ما تخاض الحروب الحديثة دون تأصل الكراهية بين الشعوب»، مقولة ذكرها المفكر الألماني العسكري كارل كلاوزفيتز، أحد أهم المنظرين في التخطيط الاستراتيجي العسكري، تعكس أهمية زرع التطرف والكراهية وإلغاء الرأي الآخر، للحصول على شخوص مستعدين للتدمير والقتل. ذلك ما نجده مسعى للجماعات المتطرفة بالعموم، ونموذجها الأكثر حداثة كتنظيم داعش، في محاولة لحذو استراتيجية كلاوزفيتز في «اكتساب الرأي العام» بهدف «جعل العدو ينفذ إرادتهم»، وذلك بطرق عصرية، حيث تم استغلال وسائل الإعلام الحديثة والاستفادة من كون العالم غدا «قرية صغيرة»، للتواصل مع أعضاء ومؤيدين في أقاصي الأرض. فالحادثة «الجنائية» التي حدثت في الرياض أخيرا، والتي استهدفت مقيمين أميركيين بطلقات نارية، كانت مناسبة لبث الإشاعات والترويج لها من قبل محركات وهمية، تتبع التنظيم والمتعاطفين معه. هذه الحملة من التشويش الدعائي لتعزيز خطاب الكراهية والإرهاب ما لبثت أن خفتت واختفت ما إن أعلنت وزارة الداخلية السعودية تفاصيل الحادثة التي لا علاقة لها بالإرهاب كما روجت وسائل التواصل الاجتماعي. ولا يعتبر هذا النهج جديدا، فقد حاولت الجماعات المتطرفة سابقا اكتساب الرأي العام، ولفت الانتباه، عبر وسائل الإعلام التقليدية. فمنذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، تم نشر عدد لا بأس به من التسجيلات المرئية والصوتية لأسامة بن لادن، عبر قنوات إخبارية متعددة، أهمها قناة «الجزيرة». انتقل اهتمام «القاعدة»، والجماعات المتطرفة الأخرى لاحقا، إلى إنشاء منتديات مغلقة تستقطب أعضاء ومتطرفين وداعمين، كالإخلاص والفرقان، والمجلات الإلكترونية كمجلة «Inspire» التي أنشأها أنور العولقي وسمير خان، باللغة الإنجليزية لاستقطاب المؤيدين، حيث يظهر ذلك استغلال الإنترنت لنشر ما يسمى بالـ«Propaganda» الدعائية، والتمكن من إيجاد خلايا نائمة يستفاد منها في أوقات لاحقة. العولقي أحد أبرز الأمثلة على اختيار الجماعات المتطرفة شخصيات ذات جاذبية وقدرة على الإقناع لاستقطاب أكبر عدد من المؤيدين. فهو أميركي المولد، امتلك كاريزما خاصة وتمكن من استقطاب عدد كبير من المؤيدين، بلهجته الأميركية ذات اللكنة الهادئة، وقدرته القوية على الإقناع، واستخدامه لمواقع التواصل الاجتماعي كصفحته في الـ«فيسبوك»، التي حازت عددا كبيرا من المتابعين. وسيكون من المدهش أن نقرأ أنه في فرنسا وحدها، وبحسب تصريحات الرئيس الفرنسي في يناير (كانون الثاني) 2014، فإن أكثر من 700 شخص قد غادروا فرنسا للمشاركة في القتال في سوريا، بينما حسب إحصائيات المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي في لندن، فإن ما بين 200 إلى 366 بريطانيا قد توجهوا إلى سوريا للقتال. وتسعى الجماعات المتطرفة عبر الإنترنت إلى الحصول على أكبر عدد من المؤيدين في أسرع وقت، عبر القارات، دون الحاجة إلى الالتقاء بهم أو التعرض لمخاطر الاعتقال. ويظهر تركيز «داعش» على شن حملة دعائية عبر الإنترنت منذ يونيو (حزيران) 2014، حيث استمرت في وضع صور وبيانات تشير إلى آخر التطورات في الامتداد الجغرافي في العراق، والإنجازات العسكرية. فاكتساب الرأي العام يعد أهم استراتيجية، ويتم ذلك عبر توصيل الرسالة للآخرين، ونقل الأخبار وآخر التطورات، في محاولة لإضفاء نوع من الشفافية وزيادة المصداقية. انتشر استخدام الإنترنت وبالأخص التسجيلات المرئية في العراق عقب سقوط نظام صدّام. ومن أشهر تلك التسجيلات سلسلة قناص بغداد، التي ظهرت على أجزاء، والتي استخدمت فيها جماعة الجيش الإسلامي في العراق صورة قناص بغداد كرمز لقوتهم وتغلبهم على قوات التحالف. وتضمنت غالبية هذه التسجيلات لقطات يتم فيها قنص جنود أميركيين بهدف بث الرعب، وإقناع الآخرين باقتراب النصر. كما انتشرت تسجيلات تخص «داعش»، تفاوتت ما بين وحشية لعمليات قتل وقطع رؤوس مختطفين بأسلوب دموي، وأخرى تحوي انتحاريين يلقون خطبة وداعية. إضافة إلى محاضرات تكتيكية تعلم الأعضاء عن بعد كيفية صنع القنابل أو حتى استخدام الأسلحة. جميع تلك التسجيلات لم تكن متوافرة بشكل متاح للجميع، وإنما عبر تلك المنتديات المغلقة حيث يكون المتطرفون مجتمعا خاصا بهم. تطور ذلك الأمر في الآونة الأخيرة لنشهد نقلة نوعية من المنتديات المغلقة إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وأهمها «تويتر». وعزا الباحث في معهد واشنطن للدراسات، أرون زيلين، سبب انتقال الجماعات الإرهابية إلى التقنية الأخيرة إلى استهداف عدد كبير من المنتديات من قبل الاستخبارات لدول متعددة وإغلاقها. ويعد منتدى شموخ الإسلام من أهم المنتديات التي تم إغلاقها في نهاية عام 2012. عزز ذلك التحور إتاحة مواقع كـ«تويتر» و«يوتيوب» توصيل الخطابات والتسجيلات إلى أكبر عدد من المتابعين. يحث الكاتب عبد الله محمد محمود، الذي يكتب في وكالة «دعوة الحق» للأخبار الجهادية، الناشطين المتطرفين على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للتواصل بعد إغلاق تلك المواقع. وقد عكف عدد كبير من المنتمين لـ«داعش» على إنشاء حسابات عبر «تويتر» وإلى حد ما «فيس بوك»، حيث إنه من السهل إنشاء حسابات جديدة لهم، بعدما تم إقصاء عدد من حساباتهم في «تويتر» من قبل الشركة نفسها، خصوصا بعد نشر تهديدات بالقتل. وصل الأمر إلى أن يطلق «داعش» حملة دعائية عبر «تويتر» بعنوان: «حملة المليار»، لاستقطاب أكبر عدد من المؤيدين للتنظيم. في لقاء في صحيفة «واشنطن بوست»، نشر في يناير 2010، مع بروفسور الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون، وخبير مكافحة الإرهاب بروس هوفمان، يجد هوفمان أن الإرهابيين قد نجحوا في استغلال الإنترنت كوسيط لتجنيد الإرهابيين، ولا توجد كيفية عقلانية لإيقاف ذلك. في تقرير لخدمات أبحاث الكونغرس، قسم كل من السيناتور سوزان كولينز وجو ليبرمان مراحل التطرف الفكري عبر الإنترنت إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى: ما قبل التطرف، وهي مرحلة استكشاف الهوية، حيث يقوم المتتبع عبر الإنترنت بمتابعة الصفحات باهتمام بمعرفة الفكر الذي يتبعه المتطرفون ومعتقداتهم. المرحلة الثانية، هي مرحلة التلقين، حيث يبدأ المتتبع بتلقي كل ما ينشر والتشبع بالآيديولوجية المتبعة من قبل المتطرفين، والتفاعل ومحاولة إيجاد طرق للمشاركة. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فيبدأ فيها المتابع في التواصل مع أعضاء آخرين، ومحاولة الاندراج في المنظمة وأنشطتها بمختلف السبل. حين يرد إلى أذهاننا مصطلح الأمن القومي، لا بد من تذكر ذلك الجدل بين إشكالية الأمن القومي، والحاجة إلى مراقبة الأنشطة التي يقوم بها مستخدمو الإنترنت، وتعارض ذلك مع الحريات الشخصية، خصوصا لدى الدول التي تطالب مؤسساتها بالمحافظة على حرية المعلومات. وتعكس ذلك فضيحة سنودن، حين سرب المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودن، في يونيو 2013، تفاصيل تجسس الوكالة والمراقبة المكثفة للشعب الأميركي، مما اعتبر بمثابة انتهاك للحريات ومنافيا للديمقراطية التي تؤمن بها أميركا. مما يشير إلى التوجه العام في السياسة الأميركية، نحو الاستفادة من المصادر المعلوماتية، وتمحيصها. وقد قامت وكالة الأمن القومي الأميركي بطلب الحصول من مواقع إلكترونية كـ«فيسبوك» و«يوتيوب» على معلومات لحسابات المتطرفين، وبريدهم الإلكتروني، و«عناوين الـIP»، في محاولة للكشف عن مواقعهم. وأوضح كل من كولينز وليبرمان أنه من الصعب استخدام الرقابة وحجب المواقع، لأن في ذلك مخالفة للدستور والحرية الشخصية، وقد يتسبب في جدل كبير. واقترحا كسبل لمكافحة امتداد التطرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي نشر الوعي العام، وذلك للتمكن من تخفيف الإقبال على المحتويات المتطرفة، ويشمل ذلك نشر معاني الديمقراطية وتعددية الرأي، والأفكار السلمية. إضافة إلى أهم خطوة وهي استغلال ومراقبة صفحات ومواقع المتطرفين، لمراقبة وتحليل النقاشات والتعرف على «modus Operandi»، أي «طرق العمليات»، والكشف عن آخر المستجدات وأي اتجاه يسلكونه. وتتخذ بريطانيا مسلكا مشابها للأميركي، حيث أظهر رئيس الوزراء كاميرون عزمه على مراقبة وترصد تحركات المتطرفين وبثهم لفكرهم. وقد صادرت الشرطة البريطانية ما تجاوز 28 ألف مادة إلكترونية ذات صلة بالإرهاب، تضمنت 46 تسجيل فيديو مرتبطا بـ«داعش». وفي تقرير نشره المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي، في جامعة كينغز كوليج البريطانية، أوضح أن حجب المواد التي تحض على التطرف لا يعتبر استراتيجية مجدية، ولن يسهل القضاء على تجنيد الآخرين آيديولوجيا وبث الكراهية. وإنما لا بد من تجنيد المجتمع الإلكتروني للعمل مع الحكومات في مراقبة المواد المتطرفة وإيضاح الطرق التي يتم فيها التبليغ عن وجود مثل تلك المواد، بالإضافة إلى التقليل من جاذبية رسائل المتطرفين من خلال ترويج التسامح. بينما سلكت بعض الحكومات منهجا حادا في مكافحة تهديد الأمن القومي، من خلال حجب مواقع التواصل الاجتماعي. ففي تركيا، في محاولة للحد من سبل تأليب الرأي العام، أمر إردوغان، في مارس (آذار) 2014، بحجب «تويتر»، وهدد بحجب مواقع أخرى، مما أدّى إلى استياء الرأي العام. أما في السعودية، حيث يكمن أكبر عدد لمستخدمي «تويتر» في العالم العربي، بنسبة 40 في المائة من إجمالي عدد المستخدمين في العالم العربي، ويصل إلى 2.4 مليون مستخدم، حسب إحصائيات نشرت في تقرير الإعلام الاجتماعي العربي، وذلك في مارس 2014، فقد سعت الحكومة السعودية لسن قوانين تجرم استخدام الإنترنت بهدف بث الفكر المتطرف أو المتعاطف معه، ومحاكمة المتورطين في ذلك. وقد وصف رئيس حملة «السكينة» في المملكة، عبد المنعم المشوح، في تصريحات إعلامية، «تويتر» بأنه يعتبر أكثر شبكة تواصل اجتماعي استقطابا للسعوديين، وتحثهم على الانضمام لـ«داعش»، حيث يتم اختيار شخصيات ذات حضور قوي للفت الانتباه، كسليمان السبيعي الملقب بـ«سمبتيك»، والذي اشتهر ببرنامج هزلي عبر برنامج «كيك»، حيث استفاد تنظيم داعش من شهرته وصفحته في «تويتر» لاستقطاب الآخرين. إضافة إلى استخدام قصص مؤثرة ليتناقلها المغردون بوفرة، كتهريب الأب ناصر الشايق طفليه عبد الله وأحمد إلى سوريا، ونشر صور لهما حاملين لسلاح الكلاشنيكوف، زاعما أنهما سيكونان من طيور الجنة. وتفجير الطبيب فيصل العنزي لنفسه في كركوك. وقد شن عدد كبير من المغردين في «تويتر» حملة ضد الفكر المتطرف والانضمام إلى «داعش»، بعد انتشار مثل تلك الأخبار. وهو ما يتماشى مع حملة «السكينة»، وهي حملة تطوعية مستقلة تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، انطلقت منذ عام 2003، بهدف مخاطبة المتطرفين، وإعادة تأهيلهم فكريا، والتعمق في العالم الإلكتروني. في نهاية المطاف لا بد من الاستعانة بمقولة المفكر الصيني سن تزو، صاحب كتاب «فن الحرب»: «اعرف نفسك، واعرف عدوك، فهذا يعني أن النصر مؤكد»، حيث يتوجب الحصول على أكبر قدر من المعلومات التي تخص المتطرفين، في محاولة لتمحيصها والحد من سلطتها على الآخرين. * متخصصة في استراتيجيات مكافحة الإرهاب