تجد نفسك بقلب برلين، في مركز سوني الضخم، مفتوحاً للسماء، حولك جمهور نوعي، وفيه شخصيات ألمانية مرموقة مثل الأمين العام لوزارة الخارجية الألمانية السيد شتيفان شتاينلاين، وعمدة ولاية برلين السيد كلاوس فوفيرايت وغيرهم من الالمان المهتمين بالثقافة، يهبط الليل وتعلو أجسادنا قشعريرة حين يصدح النشيد الوطني السعودي بقلب برلين (مجدي لخالق السماء)، تشعر بالقلوب حولك موصولة بحبل للسماء، وتعلو حماسة العرضة ( نحمدالله جات على ما تمنى)، مستحضرة أبا متعب خادم الحرمين وصولاته في ساحات العرضة، ينهض سفيرنا وضيوفه الألمان للمشاركة في العرضة، وتشعر بالمفارقة أن يشارك عمدة برلين والأمين العام لوزارة الخارجية في هذه الرقصة القبلية الحماسية، تراهم جزءا من حملة صحراوية يهزون السيوف لتتلألأ بسماء برلين، اهتزت القلوب للطلبة من أكاديمية الملك فهد، الذين حضروا للمشاركة في التغني ببلدهم. وتوالت الرقصات الشعبية واصطخبت دماؤنا بوطنية فاجأتنا بعمقها. لم يقتصر الأمر على الحفل وإنما كانت توقظنا كل صباح في حجرتنا بالفندق المجاور أصداء الموسيقى الشعبية، ومشاركة عشرات الآلاف من السياح في القرية التي ظلت تبث عبق الجزيرة. جاء هذا الحفل كفاتحة لفعاليات ثقافية ثرية متنوعة على مدى أسبوع حافل، شاركت فيه روائيات سعوديات مثل الدكتور بدرية البشر بروايتها هند والعسكر التي فوحت القهوة العربية في برلين، و أيضاً الدكتورة هناء حجازي التي خاضة حوارها الصادق مع الجمهور الألماني بالسيرة الروائية طفل الإسبرجر مختلف لكن ليس أقل، التي عبرت فيها بحيميمة عن تجربتها كأم لطفل الأسبرجر. كما وبمتابعة ملحقيتنا للساحة الثقافية الألمانية لم تغفل ملحقيتنا تبني فوز كتابي طوق الحمام بجائزة نادي ليبراتور، وهي الجائزة التي تمنح لأهم عمل مترجم للغة الألمانية، يختاره القراء ضمن استفتاء على شبكة المعلومات. أثرى الفعاليات مشاركة باحثين سعوديين وألمان، ذوي مشاريع بحثية بارزة في حضارةالجزيرة، مثل أ. كونستانتين كلاين من جامعة كيمبريدج ، و أ. كريستيان شتروب من مؤسسة روبرت بوش و د. اولركة فرايتاج من معهد دراسات الشرق الحديث. وقدم السفير السابق لالمانيا لدى المملكة د هوبيرت لانج محاضرة شائقة عن رحلة العالم يوليوس اوتينغ للجزيرة العربية، والتقائه بمحمد بن الرشيد، قال اوتينغ في مذكراته (ذكرني ابن رشيد بريتشارد قلب الاسد) وكيف قاد القدر د. لانج للكشف عن بحوث اوتينغ واكتشافاته المذهلة في العلا، ولقد علق في ذهني وصية اوتينغ التي نقشت على شاهد قبره تقول: " هو الحي الباقي، اذا أمسى فراشي من تراب وبت مجاور الرب الرحيم فهنوني أحبائي وقولوا لك البشرى قدمت على كريم." هزنا في تلك الوصية ذلك الحس الإيماني العميق، الذي يعكس بشفافية روحانية الجزيرة العربية وحضارتها. أما محاضرة د.ارنولف هاوسلايتر من معهد الآثار الأماني فكانت عن (شبه الجزيرة العربية كجزء من شبكات التواصل ) محاضرات قيمة عززت حضور طرق السفر القديمة عبر الجزيرة، ودورها كجسور حضارية ساهمت في نقل الحضارة جنباً إلى جنب مع البضائع التجارية. وجاءت المحاضرات الخاصة عن القيمة التاريخية لمدينة جدة ماضيها وحاضرها وعبقرية عمارتها كصورة مشرفة لعراقة بلادنا، شارك فيها من ألمانيا أ. باربرا شوماخر وقام أ.د. هشام مرتضى المهندس المعماري وعضو هيئة تدريس بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة بتقديم محاضرة ثرية عن الاختلافات المعمارية والحضرية لمدينة جدة التاريخية وخصوصية وتفرد معمارها، مما ألهب شوق الحضور الالماني لزيارة هذه المدينة البحرية الفريدة والتي ضمت 2004 لقائمة اليونسكو للتراث العالمي. واختتمت تلك الفعاليات بنقاش بين الطلاب السعوديين والألمان حول قضايا معاصرة وآفاق مستقبلية، ولقاء حول طاولة حوار سعودي الماني للتفاهم والتلاقح المستقبلي . برنامج حافل أثراه ورعاه شخصياً سعادة سفيرنا الدكتور أسامة شبكشي الذي ظل يتواجد بحضوره اللماح، وبلباقته في التفاعل مع الجمهور والباحثين والروائيين، والجمهور والصحافة العالمية والشخصيات الألمانية، تجده يتفاعل بحرفية دبلوماسية وبإلمام واسع بالتقاطعات الاجتماعية والفكرية والسياسية، ولا يتخلى عن صراحته المعهودة، و إضافاته النوعية للحوار. ملحقنا الثقافي الدكتور عبدالرحمن الحميضي يحضر بملفه الحافل، منذ كان ملحقاً ثقافياً في فيينا، وحتى انتقاله للموقع الأكثر حيوية برلين، ويذكرنا بالدكتور عبدالله الخطيب، المحلق الثقافي السابق في باريس المتفرغ للبحث الآن، الذي سعى لوضع برنامج تبادل ثقافي تناول عقد لقاءات حوار وبرامج توعية وترجمات بين النتاج الفكري الفرنسي السعودي. يحضر الدكتور الحميضي بطموحاته العريضة لوضع الثقافة السعودية في سياقها العالمي، ويبرز محفزاً للحوار و مذللاً للصعوبات. ودوماً تتواجد وزارة الثقافة، ترعى وتشجع في شخص الدكتور عبدالعزيز خوجة، وتوسع حثيثاً أفق التبادل الثقافي مع الآخر، تنمي مساحة للتنفس والحوار الإنساني، وتتكامل تطلعات وزارة الثقافة وزراة التعليم العالي في شخص الدكتور عبدالعزيز بن سلمة المتحفز دوماً لإثراء الحوار، ونظيره الدكتور سالم المالك الذي يسعى في الكواليس لعقد اتفاقيات ثقافية وتحفيز برامج تبادل، كنموذج للفكر المنفتح المستقبلي والمستمد من عراقة الجذور. حضور كل هؤلاء وفي مقدمتهم الدكتور أسامة شبكشي رغم مشاغله لكل الفعاليات يؤكد جدية الحوار الثقافي المتسامح بين الأمم الذي تتبناه المملكة، تجد الدكتور شبكشي يناقش بموضوعية، بل ويدهشك تنقله في الأدوار من السياسي للمفكر، وأذكر في التأسف على ذهاب عمارة مدينة جدة البديعة حين تحدث عنها كأحد ملاكها البسطاء، وأسهم بطرفته الفطرية في تلطيف الحوار، ذاكراً الكنوز والثروات التي يدفنها أهالي جدة القديمة في جدران بيوتهم حين يرحلون عنها، لذا يخافون بيعها لأنهم يخشون ضياع ثروات خبأها لهم الأجداد.. هناك بلاشك انفتاحات في مثل هذه المناسبات، فحرارة برلين التي انخفضت فجأة لم يشعلها إلا دوي الطبول الشعبية من جنوب المملكة، وراقصو الجنوب الذين هزوا الجمهور بالموسيقى التي تلبستهم.. الجزيرة بلد مترام وبروح قديمة غامرة، ومن قحط رملها تنبض بحنان معطاء، وهؤلاء الرجال يحملون رسالة تبليغ هذه الروح و هذا القلب الكبير. رسالتهم ضخمة، وآمال البلد معقودة عليهم.