هؤلاء يصنعون قنابل بدائية، ويفخخون أماكن حيوية، ويؤججون غضبة شعبية، ويفجرون نقاطاً شرطية، أملاً في تقويض الحكم وفتح الطريق أمام عودة «إخوانية». وأولئك يلوحون بشماريخ نارية، ويقتحمون جامعات رسمية، ويهاجمون قوات أمنية، ويحفزون ثورة شبابية أملاً في تفكيك النظام وتعبيد المسار أمام إياب الجماعة. وبين هؤلاء وأولئك فريق ثالث متفرغ للترويج لإشاعات اقتصادية، وتخليق أخبار تغييرات وزارية، وإشعال غضبات عمالية، وإحماء انتفاضات فلاحية، وإضرام نيران عشوائية حيث تأكيد أن الدعم كله إلى زوال، وتلويح بأن الشعب كله إلى فناء، وغمز بأن «داعش» على الأبواب والأمن من الكفار والبلد بات في خبر كان. وكان المصريون حتى وقت قريب مضى يتوجسون خيفة، ويهتزون تشككاً، ويتحسسون طريقهم، ويتخوفون على مستقبلهم كلما تكالبت عليهم جهود التفجير، وتظاهرات «الإخوان»، وتلاسنات الجيوش الإلكترونية. فمنهم من كان يستفسر عن شروط الهجرة الشرعية، أو يستعلم عن سمسار الهجرة غير الشرعية، أو يستسلم لاكتئاب «البلد ضاعت»، أو يستوحش نهاية مظلمة لدولة نُهِبت وثورة رُكِبت وناس ظُلِمت. وليل أول من أمس حين أوى المصريون إلى النوم على صوت انفجار في وسط القاهرة، واستيقظوا على استمرار شغب قواعد «الإخوان» في الجامعات، وأمضوا صباحهم على إيقاع الأخبار المتواترة عن المواجهات بين الأمن و «الفرسان» (الاسم الجديد لقواعد «الإخوان» الطلابية)، وعادوا إلى بيوتهم بعد يوم عمل شاق، واستقروا على كنباتهم أمام شاشات التلفاز لم يكونوا باحثين عن المزيد من الأخبار، أو الكثير من التحليل، أو الإغراق في التنديد، بل كانوا يأملون في بصيص نور في نهاية نفق «الفوضى الخلاقة» في مواجهة «الدولة الخطاءة»، أو مخرج آمن من دائرة بكاء «الإخوان» على لبن الحكم المسكوب في مقابل تنابز الآخرين على أيهم أخطأ أكثر وأيهم تاريخه أبيض وأيهم مستقبله أخضر، خصوصاً أن رائحة الانتخابات البرلمانية تفوح في الأفق، لكن هيهات. وهيهات بين شعب يعلم علم اليقين أن «مرسي مش راجع» و «السيسي مش ساحر» وأن الاتجاه الوحيد الذي ينبغي تسليط الضوء عليه هو الأمام، وفريق يعيش إما في وهم الجماعة العائدة حيث النظر إلى الخلف، أو الاتكاء على عصا السيسي السحرية والحملقة في السماء، وهو الفرق الغائر الذي يضع عموم المصريين في مواجهة سخيفة مع الحكومة الحالية. «حالياً لم أعد ألتفت إلى تفخيخات الإرهابيين أو تظاهرت الإخوان أو سخافات الإعلام. أنظر فقط إلى الأمام بتوق إلى مشروعات تبني وحنين إلى قوانين تطبق وشوق لحكومة قوية غير مشوشة تتوقف عن تبادل إلقاء اللوم في ما بينها والانخراط في تثبيت الأوضاع المغلوطة وانتظار قرارات فوقية تصلح الأحوال المعوجة. للأسف ليس هناك سوى الجيش القادر على التفعيل»، هكذا وصّف سائق السيارة الأجرة الأوضاع التي لا تسر، والأحوال التي لا ترضي من حوادث طرق مريعة، وتلال قمامة مخيفة، وأسعار سلع مجنونة، وأحوال رعاية صحية منهارة، وأوضاع تعليمية مقلوبة، وغيرها يدفعه دفعاً - ككثيرين غيره - إلى البحث عن مخرج يعتبره الوحيد المتاح. «المتاح من الموازنة لا يسمح بالقيام بما هو أكثر من ذلك»، جاء رد المسؤول الكبير على المذيعة المنتقدة لحال الطريق المكسر الذي ترتاده آلاف السيارات يومياً والذي يحصد أرواح الأبرياء دوماً والذي يشل حركة المرور قاهرياً، وهو ما دفع إحدى المتصلات إلى المطالبة بأن يعهد برصف الطرق إلى الجيش لأنه الجهة الوحيدة التي تجهز طرقاً بمواصفات قياسية لا تؤدي إلى القبر بالضرورة، وهي المطالبة التي يتردد مثلها يميناً ويساراً في شكل متزايد على ألسنة مواطنين متضررين من تفاصيل الحياة اليومية وملفات الفساد المتراكمة وميراث السنوات المتوالية. وكلما توالت شتائم «الإخوان» وانتقادات الثوار وتلسينات الناشطين على دور الجيش في الحياة العامة، علت نبرة استدعاء الجيش والاستعانة بهيئاته واللجوء إلى رجالاته والانغماس في قدراته، هرباً من خيالات «الإخوان»، وإخفاقات الحكومات، وشطحات النخب، وضيق ذات يد أرض الواقع.