• تناولت في دراسة سابقة المصطلح الذي أضحى متداولاً في الأوساط الثقافية والفكرية الغربية أخيرًا، وهو الغزو اللّغوي، المرتبط أساسًا بترويج فكرٍ أو ثقافةٍ خارج إطارها الأصلي، وذكرت أنّ الفرنسيّين اعتبروا أنفسهم ضحايا هجمة لغوية إنجليزية جديدة عليهم، بعد أن سعوا لمدّة تزيد عن عقدين من الزّمن لتحصين أنفسهم من هذا الغزو من خلال قانونٍ يحمل اسم «تيبون / Toubon»، يجرّم كلّ من يستخدم لغة أجنبية، خصوصًا في التدريس الجامعي، ومطبّقين القرار بحرفية دقيقة انطلاقًا من الحفاظ على هويّة الأمّة الفرنسيّة وتراثها. * إلا أنّني اطّلعت أخيرًا على مقالةٍ تحليليّة وموثّقة كتبها أيضًا المحرّر الثقافي للعدد الأسبوعي من صحيفة «الديلي تلغراف»، والمعروفة بتوجهها المحافظ، وأيضًا باستخدامها للغة قويّة ولكنّها سهلة في نفس الوقت في الموضوعات المطروحة للنّقاش، وهو ما تفتقده -للأسف الشديد- الصّحافة العربية البعيدة عن اختيار المحرّرين المتخصّصين في معظم الموضوعات، وخصوصًا بعد أن أضحى الخبر أمرًا شائعًا من خلال تداوله بوسائل الاتّصال الحديثة. * المقالة التي كتبها المحرّر الثّقافي John Bingham [الديلي تلغراف: February 6 – 12 – 2013] تطرح موضوع غزو اللّغة البولندية للوسط الإنجليزي مع الرّبط بين عدد المهاجرين لشبه الجزيرة البريطانية والوسيط اللّغوي المستخدم من قبلهم. * فإذا كان كما تذكر المقالة أنّ عدد سكّان بريطانيا بمختلف قطاعاتها، بما فيه الأسكتلنديين والويلزيين والأيرلنديين إضافة إلى الإنجليز، أنّ عددهم يُقدّر بحوالي (63) مليون نسمة، بعد أن كان قبل حوالي عقدين من الزّمن قد تضاعف بمقدار 50%، وخصوصًا بعد أن فتحت أبواب الهجرة - اتساقًا مع أنظمة الاتّحاد الأوروبي، التي بدأت المؤسّسات البريطانية تضيق منها، وتفكّر جدّيًا في الانسحاب من دوائرها الرّسميّة، - فإنّ الجدول التّحليلي أو الإحصائي المنشور مع المقالة -إيّاها- يوضّح أنّ حوالي 92% يتحدّثون الإنجليزية، وأنّ ما مقداره (546) ألفًا يتحدّثون البولنديّة، أي حوالي 1% فقط من السكّان، وتأتي اللّغة البنجابية في المرتبة الثالثة، حيث يتحدّث بها حوالي (273) ألف شخص، أمّا المرتبة الرّابعة فتحتلّها اللّغة الأرديّة، حيث يتحدّث بها حوالي (269) ألف شخص، وتحتلّ اللّغة البنغالية المرتبة الخامسة، حيث يتحدّث بها حوالي (221) ألف شخص، أمّا المرتبة السّادسة فقد كانت من نصيب أقليّة من شبه القارّة الهنديّة تُدعى Gujarati، والمتحدّثون بها حوالي (213) ألف نسمة، وصعدت العربية إلى المرتبة السّابعة، حيث يتحدّث بها حوالي (159) ألف شخص، وذلك بالطّبع لا يعكس حجم الجالية العربية، ولكن هذا التّحليل مقصور على الأشخاص الذين يتحدّثون بلغتهم الأم دون أن تكون الإنجليزية اللّغة الأولى لهم. والغريب جدًّا أن تأتي الفرنسيّة في المرتبة الأخيرة، حيث يتحدث بها فقط (147) ألف شخص، بينما كانت اللّغة الفرنسية إلى مطلع التّسعينيات الميلاديّة هي اللّغة الثّانية في الوسط الإنجليزي، وهو الأمر الذي يبرّر مخاوف المثقّفين الفرنسيّين ممّا يرونه خطرًا محدقًا بلغتهم داخل فرنسا وخارجها. * ولقد استخدم الكاتب تعبيرًا من مثل: صورة أخّاذة جديدة ترسمها النّتائج المترتبة على وجود الأقلّيات الإثنية المهاجرة في الغالب بدوافع اقتصاديّة لشبه الجزيرة البريطانيّة، وتأتي مدينة «لندن» في بؤرة هذا المشهد الأخّاذ أو الحيوي، حيث رصدت الاستطلاعات الإعلامية والصحافيّة الموثّقة أنّ ما يزيد عن شخص واحد من بين خمسة من سكّان مدينة «لندن» يتحدّثون بلغة أخرى غير الإنجليزيّة، ولكن لأنّ المجتمع البريطاني كبقية المجتمعات الأخرى لديه مشكلاته الخاصّة به، ولكن الفرق بين مجتمع غربي وآخر من الدول النّامية هو أنّ الأوّل لديه استشراف أو رؤية مستقبليّة لوضع حلول لهذه المشكلات، بينما يغلب عامل التّسويف أو دفن الرّؤوس في الرّمال -خوفًا وهلعًا من صور قاتمة أو غير متوقعة النّتائج- يغلب هذا وسواه على مجمل المشكلات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية عالميًا وكونيًا، ولهذا فإنّ الإنجليز يرون أنّ سياسة الاتّحاد الأوروبي في فتح باب الهجرة هي العامل الرّئيس وراء هذه المشكلة، التي يمكن تصنيفها بأنّها لغويّة أو ثقافية، ولهذا كانت الخطّة التي أشارت إليها بعض وسائل الإعلام والمتمثلة في تصوّر المؤسّسة العمّالية بمبادرة من الرّجل الأوّل فيها «إيد ميلباند Ed Miliband»، حيث تنصّ على أنّ الطلاب الإنجليز، وخصوصًا أولئك الذين لا تتوفّر لهم الفرص لإكمال تعليمهم الجامعي، ويشكّلون حوالي 50% من الطلاب، يفترض أنّهم مع طلاب «البكالوريا»، يقومون من خلال برامج متخصّصة بدراسة علم الرّياضيات واللّغة الإنجليزية بصورة مكثّفة حتّى بلوغهم العشرين عامًا أو أقلّ، ولم يكن الأمر اعتباطيًا أو مزاجيًا بمقدار ما هو اعتبار علم الرّياضيات هو المدخل لتشكيل عقلية الطّالب العلميّة، بينما تبقى اللّغة تمثّل، إضافة لدورها التّواصلي والطبيعي والهام، الهويّة التي ترتكز عليها الأمّة في مسيرتها الحضارية في زمن صراعات الهويّات. باحث في تاريخ مكة والمدينة استاذ الأدب بجامعة الملك عبدالعزيز