كنت قد أوردت ما ذكره كلٌ من أحمد أمين وطه حسين عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته. ويبدو أنّ ما ذكره المستشرق الرَّحالة بوركهارت السويسري الجنسية الذي وصل إلى الحجاز عام 1229هـ/ 1814م. فقد كانت كتابته أكثر كتابات الرَّحالة الغربيين دِقَّةً وإنصافاً. وقد تَحدَّث في كتابه، الذي نُشِر في لندن عام 1831م - وترجمة عنوانه: ملاحظات عن البدو والوهابيين - عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسيرة أتباعه في إدارتهم لشؤون البلاد وحفظ الأمن فيها وطريقة حروبهم، ثم صراعهم مع قوات محمد علي باشا. وكان مما قاله: «لم تكن مبادئ (محمد بن) عبد الوهاب مبادئ ديانة جديدة؛ بل كانت جهودُه مُوجَّهةً فقط لإصلاح المفاسد التي تَفشَّت بين المسلمين، ونشر العقيدة الصافية بين البدو الذين كانوا مسلمين اسمياً، لكنهم كانوا جهلاء بالدين وغير مبالين بكل فروضه التي أوجبها. وكما هي الحال بالنسبة لكل المصلحين لم يفهم ابن عبد الوهاب من قِبَل أصدقائه ولا من قِبَل أعدائه. فأعداؤه حينما سمعوا بفرقته الجديدة التي تهاجم انحراف الأتراك وتنظر إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، بغير نظرتهم التقديسية اقتنعوا بسهولة أنّ عقيدة جديدة قد اعتُنِقت، وأنّ الوهابيين لذلك ليسوا مُجرَّد ضالين؛ بل إنهم كافرون. وقد تَأكَّد لديهم هذا الاعتقاد بخداع شريف مكة وبنذير الخطر الذي حَلَّ بالباشوات المجاورين. وأصدقاؤه؛ وبخاصة البدو الذين كانوا جهلاء تماماً بالدين قبل أن يعرفوا الوهابية، والذي أصبحوا يعرفون عادات الحجاج الأتراك وسكان المدن العرب ومبادئهم المختلفة، بدا لهم ما أتى به ابن عبد الوهاب وكأنه ديانة جديدة أيضاً. ولكن قليلاً من السوريين الأذكياء الذين أدَّوا الحج، ووجدوا فرصة للتحدُّث مع المُطَّلعين من الوهابيين، اقتنعوا أنّ عقيدة الوهابيين هي عقيدة الإسلام». ثم قال بوركهارت: « إنَّ مبادئ الوهابيين الأساسية تَتَّفق مع تلك التي تُدرَّس في مناطق الإمبراطورية الإسلامية. فالقرآن والسُّنة مصدران أساسيان مشتملان على كل الأحكام. وآراء المفسرين الأجلاَّء للقرآن محترمة بالرغم من أنها ليست متَّبعة على إطلاقها. وفي محاولة لإيضاح الأعمال الأصيلة والمعتقدات الصافية للمؤسس الأول للإسلام وأتباعه من الأوائل - كما هو ثابت في تلك الأحكام - كان لا بد للوهابيين من مهاجمة عدد من الآراء الخاطئة والمفاسد التي طرأت على الإسلام كما يدرَّس الآن، ولا بد لهم، أيضاً، من الإشارة إلى الحالات الكثيرة التي يَتصرَّف بها الأتراك على نقيض مباشر مع المبادئ التي يعترف هؤلاء أنفسهم بأنها أساسية». وبعد أن أورد عِدَّة أمور مُهمَّة من أصول الدين وفروعه كان الأتراك بالذات قد أهملوها قال: « إنّ ابن عبد الوهاب اتَّخذ القرآن والسُّنة دليله الوحيد في الأخلاق، وإنَّ الخلاف بينه وبين الأتراك السُنِّيين - مهما قيل عنه - هو أنَّ الوهابيين يتَّبعون بدقة الأحكام نفسها التي أهملها الآخرون؛ ولهذا فإنّ وصف الديانة الجديدة - أي دعوة ابن عبد الوهاب - ما هو إلاَّ تلخيص للعقيدة الإسلامية». وبعد ذلك تَحدَّث بوركهارت عن حكومة الدولة السعودية التي قامت على أساس دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقال: « لقد دفعت رغبة ابن عبد الوهاب وحلفائه في إعادة العرب إلى الحالة التي كانوا عليها عند ظهور مؤسس ديانتهم - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - إلى تغيير وضعهم السياسي بمجرَّد أن رأوا أتباعهم في ازدياد. وكان محمد وخلفاؤه القادة السياسيين والدينيين لأُمَّتهم. وتوضح كتب الفقه الإسلامي أنه من الضروري وجود زعيم أعلى في الشؤون الدينية والدنيوية. وكانت نجد، التي أصبحت المركز الرئيس للقوة الوهابية، مقسَّمة إلى عدد من الأقاليم والبلدان والقرى الصغيرة المستقل بعضها عن البعض الآخر. وكانت في حالة حرب مستمرة، ولم يكن يُعتَرف فيها إلاَّ بقانون القويِّ؛ سواء في البادية أو داخل أسوار البلدان. وإضافة إلى ذلك كانت الحُرِّية غير المحدودة للقبائل البدوية، وحروبها التي لا تنتهي، وغزواتها ذات السلب والنهب، قد جعلت نجداً مسرحاً للفوضى الدائمة وسفك الدماء. ولم يبسط عبد العزيز بن محمد (بن سعود) حكمه على كل نجد إلاَّ بعد كثير من الصراع الشديد. ولأنه أصبح رئيس منطقته تَولَّى السلطة العليا فيها، وجعل حكمه مشابهاً لذلك الذي زاوله الأوائل من أتباع النبي محمد. وقد رأى من العبث أن يحاول استرقاق بني جلدته. ولذلك تركهم ينعمون بِحُرِّيتهم، لكنه أجبرهم على أن يعيشوا بسلام، ويحترموا الملكيات الخاصة، ويطيعوا أوامر النظام. فكانت حكومته حُرَّة لأنها قائمة على نظام بدوي متعارف عليه. فكان هو رئيس كل مشائخ القبائل، التي يدير سياستها الخاصة، بينما بقي كل العرب مستقلِّين أحراراً داخل قبائلهم باستثناء أنهم الآن أُجبِروا على مراعاة النظام بدقة كاملة، وأصبحوا عرضة للعقوبة إذا عارضوه، وبات عليهم أن يدفعوا الزكاة إلى خزينة الدولة، ويلتحقوا بقوات الحاكم متى طلب منهم ذلك، ولا يتحاكموا إلى السلاح في خلافاتهم؛ بل إلى محكمة شرعية تنظر في تلك الخلافات».