على الرغم من الوقع الجميل للقب (دكتور) في الأنفس والآذان ــ على الأقل في عالمنا العربي، فإنني كثيرا ما أقاوم إغراء هذا اللقب العلمي الرفيع عندما تتم مناداتي به خلال مشاركتي في بعض المناسبات العامة أو عبر مجلس (الشيخ) تويتر!، وحتى لا تسول لي نفسي الأمارة بالسوء أحيانا السكوت، والاستمتاع بالاستماع لهذه الدرجة العلمية التي لم أحصل عليها بعد «رغم الكثير من العروض المشجعة على ذلك»، فإنني أحرص (غالبا) ومتى ما كان الظرف مواتيا على تصحيح هذه المعلومة غير الصحيحة بالنسبة لي من خلال مقاومة رغبتي في سماع اسمي مقرونا بكلمة دكتور، وأسارع ــ على مضض ــ إلى تصحيح المتكلم، ولفت نظره إلى أنني لست دكتورا وإن بدا علي ذلك؛ أحيانا!!. المقدمة السابقة كانت ضرورية ــ في تقديري ــ لتخصيص مقالي اليوم للحديث عن أحد الموضوعات الشائكة اجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا وأكاديميا، وهو موضوع الشهادات العليا الوهمية التي أصبحت ظاهرة خطيرة تعاني منها الكثير من المجتمعات في العالم، مع تزايد انتشارها محليا في السنوات الماضية، ولا سيما بعد تأخرنا الملحوظ في إصدار تشريع رادع لتجريمها، ما أدى لاستفحالها وظهور نتائجها السلبية في أكثر من قطاع حيوي، وعدم خجل الكثير ممن انكشف حملهم لشهادات وهمية من البروزة؛ وفي قول آخر، من (الترزز)، والسعي نحو تبوؤ مواقع قيادية؛ بعضها مهم ويرتبط بمصالح المواطنين. ورغم أن حرص الكثير من الدكاترة (الوهميين) للحصول على درجة الدكتوراة يعود في معظمه لأسباب (نفسية) ترتبط بالنرجسية وحب الذات، إلا أن هناك أهدافا أخرى (عملية) لذلك، من أبرزها رغبة الكثيرين في الحصول على الوجاهة الاجتماعية، أو لتعزيز وجاهتهم لو كانوا وجهاء بالفعل؛ إضافة إلى تحسين فرص حصولهم ــ بغير وجه حق ــ على مواقع وظيفية جيدة، أو منافع مادية لا يستحقونها، ولا سيما مع سهولة الحصول على تلك الشهادات في مجتمعنا بعد أن لجأ بعض غير الدكاترة إلى (التدكتر) وهميا عبر دفع مبالغ مالية متفاوتة القيمة لمحترفي بيع شهادات الأوهام من بعض الجامعات المفتوحة ومؤسسات التعليم عن بعد، والكثير من المكاتب التي تقوم بالترويج لمثل هذه الدرجات الزائفة. وعند التحدث عن الموضوع لا بد أولا من التفريق بين نوعين من تلك الشهادات «المضروبة»، أولهما هي وثائق الدرجات العلمية المزورة التي يلجأ أصحابها ــ عمدا ــ لتغيير البيانات والمعلومات الواردة في محررات رسمية (صحيحة) لتزوير حصولهم على شهادات ولم يحصلوا عليها قط، ومن جامعات شهيرة ومعترف بها، سواء أكان ذلك بكتابة أسمائهم مكان أسماء أصحاب الشهادات الفعليين، أو بتغيير مسميات التخصصات أو الكليات والجامعات، وهذا النوع يندرج تحت جرائم التزوير، وتتم معاقبة المدانين به وفقا للأنظمة المطبقة محليا بعقوبة السجن من سنة لخمس سنوات، وبغرامة مالية تتراوح بين ١٠٠٠ إلى ٥٠٠٠ ريال.. فقط!!. أما النوع الثاني من تلك الشهادات الوهمية، فهي الوثائق التي يتم الحصول عليها بالفعل، ولكن بدون المرور بالمراحل العلمية والبحثية المطلوبة أكاديميا، ويمكن توفيرها من مصادر (أكاديمية) غير معروفة مثل الدكاكين (الجامعية) المنتشرة عبر فضاءات الإنترنت، أو من الجامعات غير الحقيقية التي تقع غالبا خارج نطاق إشراف الأطر الحكومية الرسمية، وذلك نظرا لضعف تصنيفها الأكاديمي، أو لعدم الاعتراف بمخرجاتها ورفض معادلة شهاداتها؛ وللأسف فإن أنظمتنا الحالية لا تنص (صراحة) على تجريم حملة هذا النوع من الشهادات، وإن كان هناك مشروع قانون يتم إعداده في مجلس الشورى منذ نحو ٥ أعوام ويهدف للحماية من الشهادات الوهمية، ولم ير النور بعد.. حتى الآن!، وتلافيا للمزيد من التأخير، أقترح ــ في هذا الصدد ــ إضافة مادة جديدة على نظام مكافحة التزوير ليشمل تجريم مصدري الشهادات الوهمية، وحامليها (بعلمهم وإرادتهم)، ومن يقوم بتشغيلهم. ورغم أن الشهادات الوهمية العليا ــ في تقديري ــ تعكس في نهاية المطاف خللا في شخصية حامليها، إلا أن خطورتها على المجتمع والاقتصاد الوطني تتفاوت وفقا لعاملين رئيسيين هما نوعية التخصص (المزعوم)، وكيفية استخدام الشهادة، وبالنسبة للنوع الأول، فإن خطر الشهادات الوهمية في التخصصات المهنية والتطبيقية كالطب والهندسة ونحوها يفوق خطرها في التخصصات النظرية؛ أما بالنسبة لطبيعة الاستخدام، فإن اكتفاء الدكتور (الوهمي) بتأطير شهادته في برواز أنيق فاخر، وتعليقها على جدار مكتبه أو صالون منزله يجعل ضررها هنا أقل خطرا، حيث يقتصر على حصول حامل الشهادة على تقدير معنوي ووجاهة لا يستحقها. وفي كلتا الحالتين فإن تقديم هذا النوع من الشهادات إلى أرباب الأعمال في القطاعين الحكومي والخاص للحصول على وظائف أو مزايا وظيفية كالترقيات والزيادات والتدريب والحوافز، هو تدليس خطير، وينطوي على احتيال كونه يحرم آخرين من فرصهم وحقوقهم المشروعة بسبب تلك الشهادات، والأخطر من كل ذلك هو عندما يقوم هؤلاء (النفسيون) بممارسة (اختصاصاتهم) الوهمية على أرض الواقع فيقومون ــ على سبيل المثال ــ بمعالجة المرضى، وإجراء العمليات الجراحية، ووضع المخططات الإنشائية للمباني العامة أو الخاصة، وتدريس الطلاب في المدارس والجامعات، والتصدي للدعوة والإرشاد الديني والاجتماعي، وتصدر الإعلام المشاهد والمقروء بطروحات واهية قد ينخدع بها البسطاء وغير المتخصصين. ختاما، لا يمكن الحديث عن الشهادات الوهمية في بلادنا بدون التطرق للوسم الشهير على تويتر (السعودي)، والمعروف بـ(هلكوني)، والذي يعود الفضل في إطلاقه إلى عضو مجلس الشورى الدكتور موافق الرويلي، والذي بلغ عدد تغريداته حتى الآن أكثر من ١٢ ألف تغريدة، وأسهم إلى حد كبير في لفت أنظار المجتمع إلى قضية الشهادات الوهمية، كما لا يفوتني الإعراب عن تقدير مجتمعنا لجميع حملة درجة الدكتوراة (الفعلية) في بلادنا الذين أسهم الكثيرون منهم ــ ولا يزالون ــ في التنمية الوطنية بعلمهم وخبراتهم في كافة المجالات؛ مع رجائي لجميع الزملاء والمعارف بالكف عن مناداتي بالدكتور حتى لا أتعود على ذلك، وتجنبا لأن أكون موضوع إحدى تغريدات هاشتاق (هلكوني). gbadkook@yahoo.com