المطالبة بفرض قانون ما، أصبح صيغة معتادة في الخطاب الحقوقي بالمملكة. وبالتأكيد فإن أي دولة حديثة تطمح لفرض سيادة القانون وذلك لتنظيم جوانب الحياة، وصيانتها من نزوع الفوضى وطغيان الأهواء الشخصية. حيث تتحقق مقولة الفيلسوف بُسوت Bossuet: «حيث يملك الكل فعل ما يشاءون لا يملك أحد فعل ما يشاء، وحيث لا سيد، فالكل سيد، وحيث الكل سيد فالكل عبيد». ولكن السؤال المحوري هنا: من الذي يأتي أولا القرار السياسي أم الفعل الشعبي؟ قبل الدولة والقانون والسياسة كان سيسيولوجيا الإنسان ونظيره، والإنسان ومجتمعه. وابن خلدون ومكيافيللي، اسبينوزا وهيجل وغيرهم من الذين درسوا المجتمع كانوا عناصر هامة لتأسيس الدولة الحديثة التي يحكمها القانون. لأن القانون ما هو إلا حزمة ضوابط بُنيت على أسس تجريبية في المسألة الاجتماعية، ارتأى البشر أنها تحقق النظام المنشود وتحيّد الفوضى وتقلل من أضرار الأفعال الشخصية وتعدد الرؤى والنظر للحادثة من زاوية الناظر. القانون هو السقف فلا يمكن لنا أن نضع سقفاً بلا بنية تحتية ولا جدران!. كيف يمكن للخطاب الحقوقي بالمملكة - على سبيل المثال لا الحصر - أن يطالب بقانون تجريم الكراهية والعنصرية والتطرف وهو ينام على موروث عقدي يفوح برائحة التحريض وتكفير الآخر وإباحة دمه؟. أو كيف نطالب بسقف القانون وليس ثمة ذراع تبذر قبول الآخر وضمان حقه الاجتماعي والفكري ولا أرضية اجتماعية حاضنة لتلك البذرة؟ أرى أن المطالبة بقرار سياسي يجرم التطرف هو درجة وعي ممتازة ولكن من العار أن يقف أحدهم مطالباً بتنظيف ساحة ما بلسانه ثم يغض الطرف عن جيرانه وهم يلقون الأوساخ في تلك الساحة، بل ويطالب العالم كله بغض الطرف وتجاهل ما يفعله الجمهور! القانون يعمل بآلية العقاب والجزاء ولا يتعمق لأبعد من ذلك، القانون لا ينقح ذاكرة الجمهور وقاموسه وثقافته وعاداته. الأفعال تبدأ بأفكار، واللص حين يكون معتقداً أنه لا يفعل سوى استرداد حقه الطبيعي فإنه سيعتبر عقاب القانون نوعاً من الاضطهاد، والشعور بالاضطهاد منبع الرفض!. فلنا أن نتخيل لو فرض قانون تجريم الكراهية والتطرف، ذاك الصراع النفسي الهائل بين تطبيق القانون أو تطبيق ما يقوله المُفتي. في مجتمعات بعيدة عن الوعي الوطني والمواطنة وما زالت تعيش تحت هوية المذهب أو القبلية. وتخضع لسلطتيهما، فتضيع هيبة الدولة وهيبة القانون!. الفعل الشعبي بدأ مع مالالا في باكستان في فك حظر تعليم الفتيات الذي فرضته سلطة طالبان. مالالا ذات 17 ربيعاً التي حازت على جائزة نوبل للسلام لعام 2014 قادت حراكاً نشطاً ضد حرمان الفتيات من التعليم عبر تدوينات منددة. ونضال بلغ تلقي الرصاص في الوجه. الفعل الشعبي يبدأ بالإثراء النوعي لحقوق الآخرين في الاختيار الفكري والاجتماعي. ويبدأ بخطيب المنبر، مناهج التعليم، المخيمات الصيفية، حلقات تحفيظ القرآن، الندوات، الإعلام.. على قيادات المجتمع التحرك لدعم خطاب حتمية الاختلاف وضرورة احتواء الآخر وحماية حقه كما يحمي الفرد حقه الخاص تماماً. علينا جميعاً تقع مسؤولية التصدي لمفاهيم الإقصاء والكراهية والعنصرية والتطرف عن طريق تغيير أسلوب الخطاب الديني والاجتماعي قبل أن نطالب بفرض القانون.. السقوف لا تقف في الهواء!