* يبقى المثقف حيثما كان هدفاً لألسنة الناس بما يُسرّون وما يُعلنون، رجماً بالظن أو قذفاً أو استنكاراً، وليس في هذا عجب، لأن هذا قدر المثقف، وهو لا يملك حصانة من الخطأ، لأنه إنسانٌ قبل أن يكون شيئاً آخر، مهما تفوق تعبيرُه، وسما عطاؤُه، وأبدع بيانُه! * * * * وتضمّ (لائحة الاتهامات) للمثقف العديد من المواقف والمزاعم والأقوال، أزعم أن في بعضها قدراً من الباطل قليلاً من الحق يتأثر بهما تعريف المثقف وتأهيلهُ والاعتراف به.. وهاكم الأمثال: * * * * فريق من الناس يتهم المثقف بأنه ينظر إلى الناس من علٍ فلا يرون إلاّ ما يرى، ولا يسمعون إلاّ ما يقول، ولا يقرأون إلاّ ما يكتب! * وفريق آخر يتهم المثقف بازدواجية القول والفعل، فقد يأمر الناس بمعروف.. وينسى نفسه، وقد ينهاهم عن منكر، ويأتي مثله! *** * وفريق ثالث من الناس يتهم المثقف بممارسة ثنائيةً حادةً من التفكير وفي استنباط الخيارات وتصنيفها عبر تعامله مع بعض قضايا الحياة والأحياء.. فيصبَّ تعامله معها في قالبٍ أخرسَ اسمه (إمّا.. وإمّا)، لينتهيَ في بعض الأحوال أو أكثرها إلى لا شيءٌ يفيد! * وهناك فريق رابع يأخذ على المثقف اعتزالَه الناسَ داخل أسوار كتبه وأفكاره، وأن هذا التوجه يخرجه عن مدار التفاعل الفاعل مع قضاياهم، فرحاً وترحاً؟ * * * * راودتني هذه الرؤى الذهنية عن المثقف قبل حين وأنا أُعد للقاءٍ مكتوب مع إحدى المطبوعات، وقد اخترتُ من بين تلك المداخلات الثقافية ما له صلة بالمسائل التي وطَّأتُ لها بمقدمة هذا الحديث، وسأطرحها موجزةً عبر السطور التالية.. فأقول: * * * أولاً: * أرفضُ بإصرار فوقية المثقف و(شوفينّيتَه) وادّعاءه السمو على خلق الله، وأرى أنه واحد من اثنين: * إما نرجسيُّ الهوى، يمنح نفسه حقَّ الوصاية على مشاعر وعقول وهموم الآخرين بلا حق ولا حجة ولا دليل، عندئذٍ، سننكر عليه هُوية المثقف ما دام يقيم بينه وبين الناس سدوداً وحواجز من التفوق والاستعلاء المزعوم، وسينتهي به الأمر إلى نوع من الهذيان لا يسمعُه ولا يقرأه سواه! * وإمّا مثقف يغرقُ نفسه في غدير المثاليات.. يحسب أنه يحسن القول المفيد، أو يكتب شيئاً يقرأ فيُفهَمُ فينْفَعُ! * * * ثانياً: * أما ازدواجية بعض المثقفين فيما يقولون فأمر ليس نكرةً ولا ندرةً ولا أمراً مجهولاً، وما أكثر الذين يبشرون بالعدل وهم أنفسهم يظلمون، وما أكثر الذين يعظون بالصدق وهم أنفسهم يكذبون.. ويرتشون ويحتالون.. ومنهم من يشبّه الباطل بالحق، يحسبُه حقاً! ومنهم من يُلبس الظنَّ حقيقةً.. بما لا يُغني من الحق شيئاً! * * * * لكن.. يجب ألا ننسى أن المثقف، بشرُ من قبل ومن بعد، فهو خطَّاءُ ككل البشر، وقد ينالهُ من فتن الهوى ما يغويه أو يضلّه عن الصراط القويم! ولذا، يتعذر القولُ بأنَّ المثقفَ (مُحصن) من المزالق التي يتعرض لها سواهُ من الناس، وإنْ كنّا نطمعُ منه الالتزام بما يقول مثاليةً وسلوكاً! * * * ثالثاً: * يُكرهَ للمثقف أن يتعامل مع قضايا الإنسان والحياة بثنائية حادةِ الأطراف، أحادية الرؤية، أنانية القصد، فلا يرى للقضية سوى وجهين، إما الأبيض أو الأسود.. ويتجاهل ألوان الطيف الأخرى! هذا هو التطرف الذي قد يترجم نفسه، إذا سطا على العقل، ليصبح نوعاً من الإرهاب الفكري المرفوض! * * * وبعد..، * فنعم.. للثنائيات الفكرية ما دامت تسمح بالقسمة على أكثر من اثنين! ولا للثنائيات إذا كان الجدل فيها يقود إلى طريق مسدود!