لا أعرف لأي مدى يصدح السؤال في أذهانكم، لكن في كل عبور للجسر إلى البحرين أتساءل: لما هذا الزحام والتكدس؟ ولما تستغرق الرحلة القصيرة ساعات طويلة؟ لقد بينت الإحصاءات أن معظم من يقصد البحرين من السعوديين هم العوائل. وكثيرون يحرصون على زيارة هذا البلد الجميل الضاربة جذوره في الحضارة، الذي تربطنا به كل الوشائج والصلات حصراً. شخصياً، أشعر أن لهذا البلد مكانا خاصا في نفسي، فقد غادر والدي الأحساء صغيراً في بداية الثلاثينيات من القرن الميلادي الماضي، عندما ضرب العالم بأسره ما يعرف بالكساد العظيم، فأثر حتى على الأحساء الغنية تقليدياً. غادر الأحساء قاصداً البحرين ليعمل هناك وليرسل لأهله جزءاً مما يكده، واستقر بعدها هناك لقرابة ربع قرن. ولن أنسى أول زيارة لي للبحرين، كان ذلك في بداية السبعينيات الميلادية، أي قبل 45 عاماً، ولم تكن فقط أول زيارة للبلد الجميل بل كانت كذلك أول مرة أركب فيها البحر، وعلى الرغم من أن مياه خليجنا العربي ضحلة وأني أتقنت السباحة في عيون الأحساء الدافقة، لكن ذلك لم يخفف من رهبة مقابلة البحر وجهاً لوجه لعبوره من «فرضة الخبر» إلى «فرضة المنامة» المتقابلتين، وأذكر ان كل ما كان يدور في خاطري، أن أغوص وأجد أصدافا ولآلئ. قضيت في تلك الزيارة القصيرة وقتاً في شارع الشيخ عبدالله، حيث كان مقر والدي، إضافة لزيارته لبعض الأحسائيين من أقربائه وأصدقائه ومن تربطه بهم علاقة عمل. وما زلت أذكر أننا تناولنا الغداء في منزل أحد الأقارب ومن كبار أسرتنا لكنه كان قد ترك الأحساء صغيراً واستقر في البحرين، وكون ثروة وجاها، وفي العصر ذهب والدي للسوق لإنجاز بعض الأعمال، فيما أخذني العم إبراهيم -رحمة الله عليه- في جولة على الأقدام في «فرجان» البحرين المجاورة لمنزله، وكأن حديثه الهادئ الودود زرع محبة هذا البلد في وجداني. أما صبيحة اليوم التالي، فكنت على موعد والدي ليفي بوعده ويشتري لي كاميرا، وبالفعل ذهبنا إلى السوق في شارع ضيق ليس بعيدا عن باب البحرين، حيث تصطف «الحفيزات»، تعتلي أحدها لوحة «كوداك». اشتريت الكاميرا ومعها ثلاثة أفلام، وأذكر أن قيمتها كانت ما يعادل 60 ريالاً، وكنت فرحاً بها. وبعدها تكررت الزيارات، لكن على فترات متباعدة ولأسباب ليس للسياحة صلة، بل لتأدية واجبات أسرية وبصحبة والدي. لكن الأمر تغير جذرياً بعد تشييد جسر الملك فهد، فقد أصبحت الرحلة بين البلدين برية، لكنها تمكث وقتاً طويلاً رغم قصر المسافة. نعم قد تستغرق الرحلة من وسط الدمام لوسط المنامة ساعة إن كانت الشوارع والجسر خالية من السيارات والناس، لكن كم تستغرق في عطلة نهاية الأسبوع وفي الأعياد والعطلات؟ تستغرق ساعات طويلة بالفعل. وقد يقول قائل إن للجسر سعة وإن هناك جهودا تبذل منها أنه أعلن مؤخراً عن النية لإقامة جسر ثانٍ يربط بين المملكتين، لكن ذلك لا يمنع النظر لجوهر العلة من إقامة الجسر الحالي؛ تسهيل حركة نقل الركاب والبضائع بين البلدين، فهل تحقق الهدف؟ هناك من سيقول بثقة نعم، وسيعدد إحصاءات الركاب والسيارات والشاحنات العابرة في الاتجاهين، ولن أجادل، لكن أقول: ماذا عن «تسهيل» و «تيسير» انسياب حركة الركاب والبضائع؟ وسؤالي الرديف: لماذا أوقفنا حركة انتقال الركاب عبر البحر من فرضة الخُبر؟ وما الذي يمنع تحريك عبارات في الاتجاهين لنقل الركاب وسياراتهم، وأخرى لنقل البضائع بما في ذلك آلاف الحاويات؟ لعل هناك أسبابا لا أدركها، لكنه -أي العبارات- نمط شائع للنقل في الممرات المائية الضيقة، وهو معمول به في شتى أنحاء العالم. ومن ناحية أخرى، فمقارنة الانتقال بين البلدين في الماضي والحاضر لا تصح فقط باعتبار عدد الركاب بل ترتبط كذلك بالوقت اللازم لإكمال الرحلة؛ وإن كان من مقارنة فلا بد من مقارنة كم تستغرق الرحلة بالسيارة وكم كانت تستغرق بـ «اللنج»؟! فمن مزايا العبور بحراً أنك لن تتعطل لساعات في وسط البحر، فهو سالك، إذ تُنجز إجراءات الخروج في فرضة، وتستكمل إجراءات الدخول في الفرضة المقابلة، وبالإمكان زيادة عدد العبارات حسب المواسم، وبالتأكيد يستوجب ذلك زيادة عدد كوادر الجوازات والجمارك عند المنافذ. النقطة هنا، أن الحلول تكميلية، ولا يعني قيام جسر أن نستغني عن العبارات، فها نحن نستخدمها للتنقل عبر البحر الأحمر وهو الأكثر عمقاً وخطورة، ثم ان ركوب العبارة بحد ذاته نزهة للسياح وللأسر التي تبحث عن متعة وتسلية قد تجدها في مياه الخليج.