تختفي خلف جدران بعض منازل المدينة المنورة، حالات نفسية يندى لها الجبين وتتسبب في الألم لكل من يعيشون حولها، وتتحمل المرأة الجزء الأكبر من هذه المعاناة إذ تظل حبيسة المنزل لخوفها من ترك المريض وحيدا، فتحمل على عاتقها مسؤولية الاهتمام به وتوفير جميع متطلباته عن طيب خاطر. عدد من هؤلاء النساء اللائي يتحملن مسؤولية غيرهن سردن لـ«عكاظ» قصصهن مع أبنائهن أو أشقائهن أو أزواجهن، حيث تتحدث أم نواف عن شقيقها المريض فتقول: لدي شقيق تجاوز عمره الأربعين عاما كان موظفا بإحدى الدوائر الحكومية، يعيش حياة مستقرة وكان وضعه العقلي سليما جدا، وعندما وصل عمره الخامسة والعشرين بدأ وضعه النفسي يتدهور شيئا فشيئا حتى اصبح يغلق على نفسه الباب ولا يكلم أحدا سوى والدتي وترك عمله وأصدقاءه، حاولنا عرضه على أحد الاطباء النفسيين او المشايخ للقراءة عليه ولكنه رفض بشدة وكانت والدتي تشفق عليه وتعامله كطفل الصغير، وكان لا يكلم أحدا سواها وظلت والدتي معه في المنزل ترعاه وتسهر على احتياجاته حتى توفيت وبقي أخي وحيدا في المنزل وفضل البقاء في منزل العائلة، والآن نضطر أنا وشقيقاتي وأشقائي إلى التناوب في الذهاب للاطمئنان عليه ورعاية شؤونه. أما أم عبدالرحمن الموظفة في أحد القطاعات الخاصة فقد فوجئت بما حل بزوجها، حيث تغيرت طباعه منذ حوالى العامين، وبعد أن كان موظفا بأحد القطاعات الخاصة، ترك الوظيفة وأهمل نفسه وبيته، وتخلى عن مسؤولياته، وألقاها على عاتقها، حتى أصبحت هي الأب والأم -على حد قولها- فيما لم يعد يبالي بأحد، لدرجة أصبح يرى نفسه أفضل الناس، ولا يريد أن يسمع نصيحة من أي شخص وعندما طلبت منه أن يراجع طبيبا نفسيا اتهمها بالجنون وأردف أنها هي من تحتاج للعلاج. وتضيف أم عبدالرحمن: حرصي على أبنائي الصغار يجعلني أصمت وأصبر، لأنني لو اعترضت سوف يتشرد أطفالي، خاصة أن أهلي لن يستقبلوني في حال الطلاق، وهذا يعني أن أترك أبنائي مع أب بهذه النفسية والعقلية. ولم تخف شروق شعورها بالحزن تجاه نكسة زوجها الذي فصل من عمله فتقول: تبدل حال زوجي تماما حتى أصبحت أخاف منه، حيث أصبح رجلا آخر لا أعرفه، مختلفا عمن عرفته وتزوجته، إذ لاحظت ذلك عندما تكرر غيابه عن عمله، حيث كان يعمل في وظيفة حكومية مرموقة، ومع تعدد غياباته فصل من العمل، وأصبح يجلس في المنزل يشاهد التلفاز طوال الوقت أو نائما لا يهتم بشؤون المنزل والابناء ولا يريد أن ينصت لما اقوله ولا يريد ان يقوم بأي عمل، فيما يرعى أهله كل شؤون المنزل، كما يتحملون الصرف على الأبناء، وأعتقد أن دلال أهله له منذ ولادته إلى يومنا هذا كان السبب الحقيقي وراء مرضه. وتبكي أم محمد ابنها قائلة: لدي ابن شاب شديد الذكاء والجمال والخلق انقلب حاله من حال الى حال فأصبح منعزلا عن الجميع يأكل ويشرب في غرفته لا يريد ان يختلط بأحد يخرج من المنزل ليهيم في الشوارع بلا دليل، ماشيا على قدميه، لا يهتم بحرارة الجو أو برودته، ولا يهتم بمظهره، وملابسه متسخة ورثة إلى حد لافت، في الوقت الذي لا أستطيع أن أتركه وحيدا فأنا دائما اجلس في البيت معه حتى أراعي مصالحه، مضيفة: لم نقصر معه في شيء وعرضناه على أطباء نفسيين، فشخصوا حالته على أنها اكتئاب حاد، كما عرضناه على مشايخ فأوضحوا أن به مسا أو شيئا من هذا القبيل، فاحترنا في علاجه، فيما تزداد حاله سوءا يوما بعد آخر. من جهته، أوضح لـ«عكاظ» أستاذ الصحة النفسية المشارك بجامعة طيبة الدكتور نايف محمد الحربي أن الضغوط النفسية تلعب دورا كبيرا في حياة الناس بشكل واضح، وهذا ما نلاحظه في الاستشارات النفسية والأسرية التي ترد لنا بحكم الاختصاص في كثير من التصرفات والسلوك غير المبرر أحيانا، ولهذا يقول العالم النفسي البريطاني كري كوبر إن الطريقة الوحيدة لكي تعيش بدون ضغط نفسي هي أن تكون في غيبوبة دائمة، ولهذا نلاحظ أن المشكلة ليست في وجود الضغوط النفسية في حياتنا ولكن المشكلة الفعلية في كيفية التعامل معها أو كما يقال ليست المشكلة في المشكلة ولكن المشكلة في كيفية التعامل مع المشكلة. ويرى الدكتور الحربي أن الأجدر والأنفع الحديث عن استراتيجيات التعامل مع الضغوط النفسية وهي على نوعين النوع الأول التعامل المباشر مع أسباب الضغط النفسي سواء كانت أسرية أو اقتصادية أو وظيفية أو اجتماعية والعمل على مواجهتها والتعامل معها وليس الهروب منها وتأجيلها حتى تتفاقم وتصبح ككرة الثلج وهو ما يعرف بالنوع الثاني وهو أسلوب الاسترخاء في التعامل مع الضغوط النفسية بمعنى استخدام الهروب من المشكلة سبب الضغط النفسي وعدم مواجهتها والميل لعدم التفكير والانشغال بالترفيه والضحك كأسلوب للهروب مع ملاحظة أن النوع الأول أفضل للتقليل من الضغط النفسي عنه من النوع الثاني كما أشارت أغلب الدراسات العلمية.