من أهم سمات الإنسان أن سلوكه لا يثبت على حال، بل هو متجدد متغير متطور، وعندما يتبيَّن أن سلوك أحدهم ثبت على حال، وبدت عليه أعراض الرتابة، فاعلم علم اليقين أنه يعاني من حالة اضطراب نفسي جعلته يدور في حلقة مفرغة من السلوك الرتيب الممل، وهذا خلاف طبيعة التكوين البشري الذي يتسم بالحيوية ويتطلع إلى كل جديد ومفيد، ليجدد به حياته، مما يجعله في شوق عارم لما هو آتٍ، هذا بطبيعة الحال عدا حالات مرحلة الشيخوخة التي من أهم سماتها الثبات والرتابة وبطء الحركة وفقدان الحيوية والنشاط. ومن العدالة الإلهية أن هذه السمة ملازمة لبني البشر على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم، أجناسهم وألوانهم، قدراتهم وإمكاناتهم، الكل يجد فيما حباه الله متعة وسروراً، فميسور الحال الذي يمتلك كل الإمكانات المادية له أساليبه في تحقيق صور الاستمتاع المادية والمعنوية التي يرى أنها تحقق لذاته ما يصبو إليه من مكانة وسمعة وتأثير في محيطه الاجتماعي، وكذا صاحب الإمكانات المتواضعة، يجد الاستمتاع في صور أخرى ربما هي أكثر بساطة في مظهرها، وأقل تعقيداً في مكوناتها، ومع ذلك يجد فيها المتعة والسرور. وتوافقاً مع طبيعة التكوين البشري، الذي يجد في التجديد متعة، نجد أن تشريعات الإسلام تلبي هذا الجانب وتشبعه بالكثير من الممارسات المتنوعة المتجددة، فما أن ينتهي المسلم من عبادة حتى يجد نفسه أمام عبادة أخرى لها طابعها الخاص الذي يختلف عن سابقتها، مما يجعله في شوق إلى ممارستها والاستمتاع بفضائلها، وفي هذا تغذية لأهم عناصر تكوين الشخصية، وأخص منها الروحية والنفسية والعقلية، فهذه المكونات عندما تتجدد فإنها لا تسأم من ممارسة المزيد من الطاعات والعبادات وهكذا يسمو الإنسان ويرتقي ويتفاعل مع معطيات الحياة ومتطلباتها. في هذه الأيام يستمتع المسلمون بفضائل عشر ذي الحجة، ففيها تتجدد خبرة الصيام وأيامه ولياليه المفعمة بتغذية روحانية تقوي العلاقة بالله تعالى، وشحنات عاطفية تصفي كدر النفس من الكآبة ومظاهر التوتر والاضطراب، وفيها صيام يوم عرفة، ذاك اليوم الذي يكفر الله بصيامه السنة الماضية والسنة التالية، وفيها ذبح الأضاحي، وتذكر أعظم ابتلاء يمكن أن يمر به إنسان، ألا وهو ذبح الابن، استجابة لله، وتسليماً له واستسلاماً، جاد إبراهيم عليه السلام بابنه، ولم يتردد إسماعيل عليه السلام بالموافقة على طلب الأب، ولما علم الله صدق عزمهما، جاء الفرج بذبح عظيم فداء لإسماعيل، فما أعظم ما أقدما عليه، وما أقل وأيسر ما نقوم به، ومع هذا ففي هذا الفعل القليل، الكثير من الحسنات التي تحفز المسلم على الإقدام طائعاً مختاراً متلهفاً إلى ذبح الأضاحي في هذا الموسم الإيماني الذي يتفرد بهذه الخصائص والميزات. وللمسلم في هذه العشر موعد مع التلبية، لبيك اللهم لبيك، ومع التكبير والحمد، عبادات قولية تسمو بالنفس وتطهرها، وتتوثق صلتها بخالقها وتتجدد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد). وفي شهر الله المحرم، موعد آخر مع عبادة يتجدد فيها الشكر لله، حيث أمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بصيام اليوم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، صيامهما لله شكراً أن نجا موسى من كيد فرعون وملأه الذين عاثوا في الأرض فساداً وطغياناً واستعباداً، ففي قصة موسى عليه السلام وفرعون الكثير من العبر التي تعزز الإيمان بالله والثقة به. وفي كل شهر قمري موعد مع العبادة، صيام الأيام البيض، بدءاً من اليوم الرابع عشر وحتى اليوم السادس عشر، وفي كل شهر كذلك صيام الاثنين والخميس، وآخر النهار من يوم الجمعة، وتتبع حالات المعوزين والفقراء والصدقة عليهم والسعي في قضاء حوائجهم. ثم يأتي شهر رمضان تاج الشهور المفعم بالروحانيات والأعمال الجليلة التي كلما مارسها الإنسان ازداد تجدداً وتقى، فالحمد لله وشكر أن منّ علينا بنعمة الإسلام الذي كلما مارست عباداته وشعائره، ازددت تقى وسعادة ورضا، إنها مواسم الخير فلا تضيعوها.