هل تتملَّكك قشعريرة، وينتابك شعور مرير حين تشاهد صور النحر التي تفيض بها وسائل الإعلام؟ هل تسأل نفسك: ما شعور المنحور وهو يستسلم للسكين لأن ما من سبيل إلى النجاة؟ ما الذي يدور في خلده وهو يرفع رأسه – قسراً – للمرَّة الأخيرة في حياته كي يرى عن قربٍ مفجع وجوه هؤلاء الذين قرَّروا أنَّه لا يستحقُّ أن يعيش؟ في عام 2003م وقبل أن تبدأ الولايات المتحدة الأمريكيَّة حربها على العراق – بمزاعم كثيرة، وفقيرة –، وتحت جنح الظلام كانت السيِّدة العراقيَّة: (عالية باقر) تقوم بعمليَّة إنقاذ فريدة، آلاف الكتب كان يجري نقلها من المكتبة المركزيَّة لمدينة البصرة إلى مكان آمن، (عالية) التي كانت تعمل في المكتبة أدركت أنَّ الحرب التي تلوح في الأفق يمكن أن تقضي – عمداً أو سهواً – على ثروة لا تقدَّر بثمن، وحين لم تجد (عالية) عوناً من أيِّ جهة رسميَّة أخذت عبء الإنقاذ على عاتقها، وتحت مسؤوليتها الخاصَّة نقلت (عالية) المخطوطات النادرة، والكتب مستعينة بكلِّ ما هو متاح بما في ذلك أقمشة الستائر! هكذا ومثل أيِّ فرد من أفراد العائلة أصبح بإمكان كتب المكتبة أن تحظى بمكان للمبيت، مكان آمن في عالم يضطرب، وتوشك معالمه أن تتغيَّر، وحين احترقت مكتبة البصرة أثناء الحرب تحقَّقت أسوأ مخاوف (عالية)، لكنَّ حدسها الذي قادها نحو إنقاذ الكتب خفَّف من هول الفاجعة، وحين أُعيد بناء المكتبة عادت تلك الثروة المحميَّة إلى مكانها، مهما بدت الحرب قاسية، ولا يمكن مقاومتها فإنَّ الإيمان والحبَّ كفيلان بإصلاح الخراب، وإعادة الحياة إلى سيرتها الأولى! نقلت وكالات الأنباء حكاية إنقاذ الكتب، وألهمت قصَّة (عالية) الكتَّاب، قصة الأطفال (أمينة مكتبة البصرة) التي كتبتها بالإنجليزيَّة (جانيت وينتر) – ثمَّ تُرجمت إلى عدَّة لغات – واحدة من نتائج هذا الإلهام، كانت القصة تمثيلاً لمعنى: أنَّك إن أنقذت كتاباً فإنَّك تستحقُّ أن تصبح موضوع كتاب، إنَّك بطلٌ على نحوٍ ما، أليست العادة تجري على أن تخلِّد الكتب أفعال الأبطال! وبالنسبة إلى (عالية) فإنَّ ما صنعته قد تحوَّل إلى أكثر شيء أحبَّته، وضحَّت من أجله: إلى كتاب! والفكرة التي ستوصلها قصة (أمينة مكتبة البصرة) إلى الطفل الذي سيقرأ هذه الحكاية هي: أنَّ المعرفة غذاء العقل، وحين تنقذ كتاباً فإنَّك تنقذ مصدر هذه المعرفة، إنَّك تنقذ الإنسان في نهاية المطاف، ألا يستحقُّ هذا الأمر التضحية، والمخاطرة، والعناء: أن تنقذ عقلك الذي يجعل منك إنساناً؟ ومن بين كلِّ ما يملكه الإنسان من ثروات فإنَّ المعرفة هي ثروته الحقيقيَّة؛ هي التي ستمنعه من أن يؤجِّر عقله، أو يغيِّبه، وهل يملك شيئاً من لا يملك عقله؟! ما علاقة قصَّة (عالية) موظَّفة المكتبة المركزيَّة بالبصرة بمشاهد نحر البشر؟ بالبشاعة التي صارت تغمر العالم؟ ما الذي يجمع بين متناقضين: إنقاذ وهدر، حياة وموت، سلام ووحشيَّة؟ نحتاج أحياناً إلى القيام بمخاطرة ما كي لا نضطر إلى مواجهة مخاطرة أكبر، إذا كنَّا نتساءل: من أين يأتي كلُّ هذا الموت؟ بل من أين تأتي كلُّ هذه الرغبة في القتل؟ ومن أين تنبع كلُّ هذه الوحشيَّة؟، فإنَّ حكاية (عالية) ستكون إجابة صالحة عن كلِّ هذه الأسئلة، ما فعلته (عالية) كان بمنزلة الضربة الاستباقيَّة في حرب الإنسان مع الجهل، مع الغشاوة التي تحجب العقل، وتجعله في حالة الحضيض، المعرفة الحقيقيَّة تنقذنا، وحين نخاطر من أجل إنقاذ مصدرها فإنَّنا نتجنَّب ما يحدث الآن: نتجنَّب أن نخوض هذه المخاطرة الأكبر، المخاطرة الحاضرة الحيَّة التي تحاصرنا، هذه التي تجعل من روح إنسان بريء أمراً قابلاً للمساومة، ومن كرامته مسألة خاضعة للنقاش، ومن رأسه لعبة تدور بين الأيدي، والأرجل، نحتاج إلى المعرفة لأنَّها هي التي ستهيِّئ للإنسان مكاناً صالحاً للحياة، مكاناً يرفع فيه رأسه للسبب الصحيح: يرفعه مزهوّاً بكرامته، وبقيمته الإنسانيَّة المحروسة من الانتهاك تحت أيَّة ذريعة.