كان توماس مان، بالطبع، واحداً من كبار الروائيين الذين عرفهم القرن العشرون، حتى وإن كان من الصعب تصنيف أدبه في خانة معينة... وهي صعوبة جعلت زميلته الفرنسية مارغريت يورسنار تدعو ذات يوم الى ان يُبتكر له تصنيف خاص به، مضيفة: «لن يكون في هذا الأمر أي غرابة على أي حال. ترى أوَليست كل حال إبداعية حالاً خاصة. وأوَليس كل تصنيف، في نهاية الأمر، بلادة ذهنية يلجأ إليها الأكاديميون الباحثون لإحلال عموميات سهلة محل خصوصيات تتطلب منهم عملاً؟». الحقيقة ان توماس مان نفسه لم يكن ابداً بعيداً من رأي يورسنار - التي كان يمكن أن ينطبق عليها هي أيضاً ما قالته عن زميلها الألماني الكبير، لكن هذه حكاية أخرى -، حتى وإن لم يفصح عن رأيه في هذا المجال بمثل وضوحها. وحتى وإن كان، ايضاً، استنكف عن ان يتحدث عن عمله هو، كما تتحدث هي. كان توماس مان يرى هذا الرأي مطبقاً على غيره من المبدعين، لكنه أبداً لم يقل لنا انه هو معني به. ومع هذا كان توماس مان، إضافة الى كونه روائياً كبيراً (انتج، بين اعمال رائعة أخرى، «دكتور فاوستوس» و «الموت في البندقية» و «الجبل السحري»)، ناقداً كبيراً ايضاً. لكنه لم يكن ناقداً اكاديمياً بأي حال من الأحوال، بل نعرف انه كان يكره النقد الأكاديمي كراهية مارغريت يورسنار لهذا النقد. وقد نشر مان، في اوقات متفرقة من حياته مقالات ودراسات تتفاوت طولاً، لكنها لا تتفاوت جودة، حول عدد لا بأس من مبدعين آخرين في مجالات عدة. إذ نعرف انه كان مهتماً بالأدب، لكنه كان مهتماً ايضاً وخصوصاً بالموسيقى والرسم والفلسفة. ولنضف الى هذا، على الهامش هنا، انه لم يكن كذلك أقل اهتماماً بالسياسة، وبالتحديد منذ ان اكتشف اخطار الفكر النازي وافتقاره الى اية نزعة انسانية، فكتب وكتب وكان لكتاباته تأثير كبير. > في النقد كتب توماس مان ايضاً. وكانت له مساهمات اساسية ومهمة. غير ان الدراسات الأبرز التي كتبها في هذا المجال، تظل محصورة في كتاب عنوانه «ألم المعلمين الكبار وعظمتهم» نُشر في برلين عام 1935، أي بعد عام من مبارحة الكاتب بلاده الألمانية سالكاً دروب المنفى هرباً من النازية. واللافت ان هذا الكتاب يضم، في ما يضم، دراسة عن رواية «دون كيشوت» لسرفانتس، كتبها مان فيما كان في الباخرة التي تقله الى المنفى عام 1934. غير ان الدراسة الأجمل والأعمق في هذا الكتاب تظل تلك التي كان توماس مان كتبها ونشرها لمناسبة ذكرى مرور خمسين عاماً على رحيل الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر. وكان عنوان الدراسة التي كتبها مان في جامعة ميونيخ، وألقاها أول الأمر على شكل محاضرة، «ألم ريتشارد فاغنر وعظمته» ما يعني انها هي التي أعارت عنوانها الى الكتاب الشامل الذي ضمها لاحقاً مع دراسات أخرى. > منذ البداية يبدو لنا واضحاً ان توماس مان، بقدر ما كان يكتب في هذه الدراسة، عن ريتشارد فاغنر، كان يكتب عن نفسه وعن معاناته كإنسان وفنان. ذلك ان العنصر الأساس في هذه الدراسة يبدو على شكل اعتراف من الكاتب بكيفية التواجه مع الإنسان والفنان فيه. بكلمات أخرى لا يكشف هذا النص فقط عن «كيف يمكن أو تجب مواجهة الفنان والإنسان فاغنر»، بل عن «لماذا أواجهه على هذا النحو». من هنا يبدو واضحاً ان مان، من خلال كتابته عن فاغنر، إنما كان يكتب عن ذاته ايضاً. إن فاغنر الذي يقدمه لنا توماس مان هنا، إنما يقدم بصفته «التعبير الفني والإنساني الأفضل عن القرن التاسع عشر». فهو في الوقت نفسه: عملاق ومتألم، اسطوري ومبتذل، فوضوي ورجعي، وطني وأوروبي، رومنطيقي وواقعي، معقّد وملتبس... باختصار هو مأسوي وشخصية مسرحية. إن ما يريد مان ان يؤكده لنا هنا ومن دون أي التباس، هو ان «فاغنر عبقري تمكن على رغم ذائقته المعلنة المتجهة صوب كل ما هو مغاير على طريقة تريستان (الشخصية المحورية في أوبراه «تريستان وايزولت») تمكن من ان يجسد موسيقياً مفهوم الإرادة الذي كان شوبنهاور خير المعبرين عنه، كما من ان يعبر بتألق وعبقرية، عن ذلك الظمأ الى الحب الذي كان شوبنهاور نفسه يعتبره مصدر الإرادة وحاضنها الطبيعي». بالنسبة الى توماس مان، «عرف فاغنر كيف يصالح في فنه الموسيقي، القوتين المتناقضتين: قوة الأسطورة وقوة علم النفس». > لا شك في ان القارئ النبيه لهذه السطور كما وردت بقلم توماس مان، سيجد نفسه من فوره مرغماً على ان يرى في هذا النص كله، تبريراً للمحاولة التي عبّر عنها توماس مان بكل وضوح في رباعيته «يوسف وأخوته». انها، في حقيقة الأمر، محاولة تشبه كل الشبه محاولة فاغنر - وعلى الأقل بحسب تحليل توماس مان لمحاولة هذا الأخير -. والقارئ اذ يجد نفسه مساقاً الى هذه الفكرة يستنتج بالتالي ان ريتشارد فاغنر في هذه الدراسة إنما هو قناع لتوماس مان، الذي لا يحاول في نصه سوى الحديث عن نفسه وتبرير كتابته تلك الرباعية. اما الذي يبقى لديه بعض الشكوك في هذا المجال، فإن عليه ان يتابع تحليل توماس مان لحياة فاغنر و«آلامه» ونتاجات فنه. إذ بعد ذلك يصل مان الى نقطة جوهرية أخرى، حيث يتابع تحليله منتقداً بعض «تلكؤ يجده لدى فاغنر تجاه كل فن من الفنون» مع انه لا يتوانى على الدوام عن ترسيخ ما يسميه مان بتوليفة معينة تتعلق بهذه الفنون وبالعلاقة القائمة في ما بينها. ومن الجليّ ان ما يريد مان ان ينبه قراءه إليه هنا انما هو محاولاته الخاصة لتوضيح العلاقة بين الفنون والقول انه، إن كان ممكناً ومنطقياً وضع توليفات ما تتعلق بكل فن، فإن الأفضل ايضاً إقامة العلاقات بين هذه التوليفات، ما يعني انه يرسم مثل هذه العلاقات، ليس فقط في أبعاد نظرية، بل كذلك في بنى عملية، بحيث يصبح كل فن من الفنون مندمجاً في صلب الفنون الأخرى. وفي هذا السياق نفسه تمكن المتابعة، في سياق دراسة تلك العلاقة الغريبة بين فاغنر ومان، والتي عبّر عنها هذا الأخير في هذا النص المدهش: ان توماس مان، الأمين دائماً لمبدأ تبجيل العالم البورجوازي الذي لم يكف ابداً عن وصفه والثناء عليه، بل حتى النواح على اختفائه، في اعماله -، يهتم هنا بأن يحدثنا عن الكيفية التي بها انكبّ ريتشارد فاغنر، الذي كان ثورياً حقيقياً في عام 1848، على كتابة أعمال بورجوازية، مع ان تلك الثورة إنما قامت اصلاً كي تندد بعيوب البورجوازية. ويقول لنا مان هنا ان خوف فاغنر من انسداد الأفق البورجوازي إنما يجد التعبير عنه في تشاؤميته الشوبنهاورية الواضحة. لقد حارب فاغنر، في رأي مان، ما كان يخشى زواله. ترى، أفلم تكن هذه حال توماس مان نفسه... في مجمل أعماله؟ وألم تكن هذه حالاً خاصة في روايته الكبرى «آل بودنبروك»؟ > إن الإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة إنما تضعنا في صلب ما نسميه عادة «لغة الذات»، بحيث نجد ان الكاتب الكبير، أيّ كاتب كبير، إنما يكتب في نهاية الأمر عن نفسه، مؤيداً أو منتقداً أو مبرراً أو مفسراً، حتى ولو كانت كتابته تبدو موضوعية الى الحدود القصوى. ولم يكن منطقياً ان يشذ عن هذه القاعدة كاتب مثل توماس مان (1875 - 1955)، كان حين كتب دراسته عن فاغنر يعيش اعمق لحظات تمزّقه بين عالمين: عالم مُثل عليا كان يراه يختفي امام عينيه تحت وقع حوافر خيول الحثالة النازية، وعالم جديد يولد من رحم تلك الحثالة. ولئن كان توماس مان قد عبّر، إبداعياً، عن ذلك التمزق في معظم أعماله، فها هو هنا في هذا النص عن فاغنر، يعبّر عنه من خلال فنان كان يرى فيه - ايضاً - مثلاً أعلى.