حتى أول العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، كانت أغلب استطلاعات الرأي التي أجريت لمعرفة نسبة المؤيدين لاستقلال كتالونيا عن التاج الإسباني تراوح بين 10 و15 في المائة، ومع دخول العشرية الثانية من هذا القرن تغير هذا الوضع تماماً. آخر استطلاعات الرأي بهذا الشأن تشير إلى أن 50 في المائة من الكتالونيين يطالبون بالاستقلال، و30 في المائة يدافعون عن البقاء داخل التاج الإسباني، و20 في المائة التزموا الحياد أو فضلوا عدم الإدلاء بموقفهم، ويوجد حالياً أربعة بين كل خمسة كتالونيين يرحبون بعقد استفتاء بشأن البقاء أو الاستقلال عن إسبانيا، ويأتي في مقدمة المرحبين بالاستفتاء النقابات العمالية، ومعظم اتحادات وروابط رجال الأعمال، والمئات من منظمات المجتمع المدني. وبغض النظر عما إذا كانت كتالونيا ستنجح يوما ما في إجراء استفتاء لتحديد مصيرها أم لا، فإن السؤال المطروح هو لماذا تصاعدت النزعة الانفصالية لدى الكتالونيين؟ ويجيب عن هذا التساؤل لـ "الاقتصادية" الدكتور جيمس باري أستاذ الاقتصاد الأوروبي بجامعة دبلن قائلا، إن هناك عدداً من العوامل تتعلق بالهوية والثقافة واللغة تميز الكتالونيين عن باقي المملكة الإسبانية، كما أن التركيبة السياسية لإسبانيا والعلاقة الملتبسة بين مدريد وبرشلونة تدفعا حتما في هذا الاتجاه، إلا أن الأوضاع الاقتصادية والأزمة المالية التي اندلعت في عام 2008 لعبت دورا رئيسيا في تفجير الوضع، وتحديدا السياسات التقشفية للحكومة الإسبانية. ويعتقد جيمس أن الضغط الاقتصادي الذي مارسته مدريد على حكومة برشلونة وتحديدا منذ 2010 لم يكن عادلاً، وأدى إلى حالة من الغضب الشعبي وخاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة ودفعهم إلى تبني مواقف انفصالية، ويؤكد وجهة نظره تلك بتصريحات وزير مالية كتالونيا التي أدلي بها أخيرا، التي أكد فيها أنه لن يستطع تنفيذ المزيد من الاستقطاعات المالية في الميزانية العامة لعام 2015، دون أن يكون هناك تدهور حاد في الخدمات العامة الأساسية. وبالفعل فإن الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن حكومة إقليم كتالونيا قامت بتخفيض النفقات العامة بنحو 20.3 في المائة منذ 2010، ووصلت التخفيضات الآن حدها الأقصى من وجهة نظر برشلونة. ورغم أن السلطات المحلية تتمتع بالسيطرة التامة على النظام الصحي والتعليمي والسياسات الاجتماعية، وتستوعب هذه البنود الثلاثة 70 في المائة من الميزانية العامة للإقليم، إلا أن الحكومة المركزية في مدريد تتمتع أيضا بصلاحيات جمع الضرائب الاتحادية من الكتالونيين، ومن ثم تعود وتمنح برشلونة جزءا منها في شكل استثمارات حكومية وإعانات، وتوجه المتبقي إلى الأقاليم الإسبانية الفقيرة، وقد تسبب ذلك خلال السنوات الأخيرة في تفاقم النزاع بين الطرفين، ليصل إلى ما يشبه الانفجار في الشهور الأخيرة. ويتهم الكتالونيون الحكومة الإسبانية بعدم احترم التزاماتها القانونية تجاههم، وتعهدها بدفع الديون المتعلقة بالإقليم، وتعديل برامج التمويل المخصصة له، وزاد الأمر سوءًا بين الطرفين أن الحكومة الإسبانية حددت سقف لمعدل العجز في الميزانية العامة لعام 2015 لا يتجاوز0.7 في المائة في مسعى منها لإيجاد مزيد من الانضباط المالي، وهو ما يعني عمليا أن الميزانية الكتالونية ستتضمن عجزا بنحو 3.3 مليار يورو، وهو ما دفع بوزير المالية الكتالوني لمطالبة مدريد باستثناء الإقليم من نسبة العجز التي حددتها، بل دعا الحكومة المركزية لزيادة المخصصات المالية لكتالونيا، وتنفيذ تعهداتها بسداد ديونهم. ويعتقد جون فانسينت الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاقتصادية أن الحكومة الإسبانية لم تتصف بالحنكة المطلوبة في الاستجابة للمطالب المالية من قبل كتالونيا، مضيفاً لـ "الاقتصادية"، أن وزير المالية الكتالوني أندري ماس كالوا طالب برفع ميزانية عام 2015 من 22.5 مليار يورو إلى 23 مليارا، بينما العوائد المتوقع تحقيقها لن تتجاوز19.7 مليار يورو، ومن ثم هناك عجز بقيمة 3.3 مليار يورو، ما سيجعل من المستحيل على الحكومة المحلية رفع مرتبات الموظفين الحكوميين على الرغم من أن الرواتب في كتالونيا خفضت بنسبة 7 في المائة خلال السنوات الثلاث الماضية، بينما لم يستمر إجراء خفض الرواتب في باقي أنحاء إسبانيا أكثر من عامين، وهذا أوجد شعورا بالغبن الاقتصادي لدى الموظفين الحكوميين، والجهاز البيروقراطي في كتالونيا. وتشير دراسات حكومية إلى أن العجز المالي في الميزانية الكتالونية يراوح بين 6.5 و8.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للإقليم، ويعكس العجز الفجوة الراهنة بين إجمالي الضرائب الفيدرالية التي تجمعها السلطات المركزية من الكتالونيين، وما تقدمه لهم من استثمارات وخدمات وتمويل. ويوجد في الإقليم حاليا نوعين من الضرائب أحدهما مركزي يجمع من السكان لمصلحة الحكومة الاتحادية على أن تقوم باستثمار جزء منه في كتالونيا والباقي للأقاليم الإسبانية الأخرى، إضافة إلى ضرائب محلية تجمعها السلطة المنتخبة في برشلونة، وتقدر الضرائب التي يسلمها الإقليم لمدريد بين 13.5 و17.5 مليار دولار سنويا، بينما يؤكد بعض الاقتصاديين الإسبان أن الإقليم يحصل فقط على ما يراوح بين 19 و21 في المائة من مساهماته المالية تلك في شكل استثمارات ومساعدات من الحكومة الاتحادية. وتراجعت القيمة الإجمالية للمخصصات المالية للخدمات العامة في كتالونيا في السنوات الأخيرة، في الوقت الذي زادت فيه بالنسبة للأقاليم الفقيرة، ما ساهم في تدهور مستويات المعيشة بالنسبة للكتالونيين، وأثر سلبا في القدرة التنافسية للاقتصاد الكتالوني الذي يعد أحد المحركات الاقتصادية ليس فقط في إسبانيا ولكن في جنوب أوروبا ككل. وأشار الدكتور جيمس باري إلى أن التحويلات المالية التي قدمتها كتالونيا لإسبانيا منذ عام 1986، تساوي 20 ضعف قيمة خطة مارشال الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية للنهوض بالاقتصاد الأوروبي، بل إن ما تقدمه كتالونيا لإسبانيا من أموال الضرائب يعد من أعلى معدلات التحويلات الداخلية في أوروبا. إنه يفوق ما تقدمه الأقاليم الغنية في ألمانيا للحكومة المركزية أو في بريطانيا أو فرنسا، وإذا لم تحول برشلونة تلك الأموال لمدريد فإننا سنشاهد فائضا اقتصاديا في ميزانية الإقليم، ولن يكون هناك حاجة إلى استقطاعات في ميزانية الخدمات العامة. وأظهرت الإحصاءات التي أعلنت نهاية الأسبوع الماضي تحسن الوضع الاقتصادي في الإقليم، إذ نما الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1.4 في المائة خلال الربع الثاني من العام الراهن، ليحقق أعلى معدل نمو منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية عام 2008، بل أعلى معدل نمو بين الأقاليم الإسبانية، وفي بلدان الاتحاد الأوروبي كافة. ويرجع هذا النمو إلى زيادة الإنفاق العائلي بنسبة 2.2 في المائة، وكان يمكن لمعدل النمو أن يحقق ارتفاعا أكثر من ذلك لولا التراجع في الاستثمارات الأجنبية بنحو 0.2 في المائة. ويبدو التهديد بتراجع الاستثمارات الأجنبية أو الإشادة بالقدرة على جذبها محورا مهما في الصراع الدائر حاليا بين برشلونة ومدريد، فوزير المالية الإسباني لويس دي جيتدوس يتوقع معدل نمو لهذا العام يبلغ 1.3 في المائة و2 في المائة للعام المقبل، بينما كانت التوقعات السابقة 1.2 في المائة خلال العام الجاري، و1.8 في المائة بحلول 2015. ولا شك أن هذا التحسن بشأن التوقعات المستقبلية للاقتصاد، يوجد مناخا تفاؤلياً بالقدرة على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية مستقبلا، إلا أن قادة الحزب الجمهوري في كتالونيا أحد أبرز الأحزاب الداعية للاستقلال وجهوا تحذيرا اقتصاديا لمدريد قائلين، إن حجم الدين الإسباني يبلغ تريليون دولار، وهذا الدين يجب أن يسدد من ضرائبنا، ولا نعتقد أن أفضل وسيلة للحكومة الإسبانية في الالتزام بتعهداتها، هو الاصطدام بمواطنيها ومنعهم من ممارسة حقهم بالاستفتاء على مواصلة البقاء ضمن التاج الإسباني أو الاستقلال. وأضافوا أنه إذا كنت مستثمرا أجنبيا فعليك التريث في قراراتك الاستثمارية، وتجيب عن تساؤل هو هل تستثمر في كتالونيا المستقلة التي تلتزم بتعهداتها أم في مملكة إسبانيا التي تصطدم بمواطنيها؟ وقد أوجدت تلك التصريحات حالة من الارتباك في تقييم الموقف النهائي للمستثمرين الأجانب تجاه الوضع في إسبانيا، فبالنظر إلى أوضاع البورصة الإسبانية فإنه يبدو أن حماس المستثمرين الأجانب لم يصبه الفتور، إذ تواصل الأسهم تحقيق مكاسبها الضخمة التي تحققها منذ عامين، لكن هذا لم يمنع الغرفة التجارية الأمريكية في مدريد من إطلاق تحذير للمستثمرين الأمريكيين بتأجيل الاستثمارات المباشرة في إسبانيا حتى تنجلي الصورة. لكن هذه الصورة ربما تتغير تماما إذا تطورات الأحداث واستقلت كتالونيا، فبعض الاقتصاديين يعتقد أن دوافع تنامي النزاعات الانفصالية لا تعود إلى شعور بالغبن من تعامل مدريد مع برشلونة، بقدر ما أنه يعود إلى إحساس بالقوة الاقتصادية لدى كتالونيا في مواجهة باقي الأقاليم الإسبانية. فالإقليم بسكانه البالغ تعدادهم قرابة 7.5 مليون نسمة، يمثل نحو 16 في المائة من إجمالي عدد السكان، وإضافة إلى أنه الأعلى نموا بين الأقاليم الإسبانية كافة، فإنه يساهم بمفرده بما يوازي 36 في المائة من إجمالي الصادرات، ويحظى بـ 25 في المائة من قيمة الاستثمارات الأجنبية، وينتج ما يعادل 19 في المائة من الناتج المحلي، وبينما يتجاوز متوسط دخل الفرد فيه 27698 يورو سنويا، يظل متوسط دخل الفرد في الاتحاد الأوروبي25500 يورو. ويفتخر الكتالونيون بأن نصف مبادلاتهم التجارية يأتي من خارج إسبانيا، وتحتل فرنسا المرتبة الأولى بين البلدان المستقبلة للصادرات الكتالونية، إذ تستوعب نحو 10 في المائة من صادرات الإقليم، ومع هذا فإن بعض الاقتصاديين يرون في ذلك عامل ضعف وليس قوة بالنسبة للداعين للانفصال. الدكتورة سو ديفيد أستاذة التجارة الدولية في جامعة أكسفورد تقول لـ "الاقتصادية"، إن فرنسا أكبر مستورد للسلع الكتالونية، ولكن أكبر ثلاثة مستوردين بعد فرنسا هم مقاطعات إسبانية، ويستوعبون ثلث الصادرات الكتالونية، وهذا يعني أن من مصلحة الإقليم البقاء في الاتحاد الإسباني. لكن قوة الاقتصاد الكتالوني تكمن في تنوعه وهوما يظهر في معدلات العمالة في القطاعات المختلفة، فـ 73 في المائة من القوى العاملة تعمل في قطاع الخدمات بتنوعاته المختلفة، وتتوزع بين 25.1 في المائة في مجال الصناعة والبناء، و1.9 في المائة في الزراعة، بينما تهيمن الصناعات الصغيرة ومتوسطة الحجم على اقتصاد الإقليم. وتحتل عاصمة الإقليم برشلونة مركزا محوريا ليس فقط في المساهمة الاقتصادية في الناتج الإجمالي في كتالونيا بل في الاقتصاد الإسباني برمته، فبرشلونة تحتل المرتبة السادسة كأفضل مدينة أوروبية في مجال الأعمال، وتعد مركزا رئيسيا للعديد من الشركات الرائدة في مجال التكنولوجيا. ويعتقد البعض أنه إذا واصلت كتالونيا ضجيجها، وتحول الكتالونييون إلى مشكلة لإسبانيا، فإن مدريد بدورها - وإذا ما نالت كتالونيا الاستقلال - ستصبح مشكلة أوروبا الأولى بامتياز.