أشدّ ما تتعرّض له اللغات من خطر هو خطر الإحلال والاستبدال، وقد أدت التجربة الاستعمارية في العصر الحديث إلى محو لغات كثيرة، فحلّت الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية، محل لغات قومية أخرى في آسيا وأميركا وإفريقيا وأستراليا، فانقرضت تلك اللغات، ولم يعد لها ذكر إلا في كتب التاريخ. ولكن اللغة قد تتعرض للتحوّل بدواعي الاستعمال وتبدّل الظروف الثقافيّة، فتتطور الأساليب اللغوية حسب حاجة الناس، ولا ينبغي الخوف من أخطار التطور اللغوي، إنما الخوف مصدره إحلال لغة أجنبية محلّ اللغة العربية في الاستخدام العمومي. وقد عرفت اللغة العربية في نهاية القرن التاسع عشر فكرة الإحياء، ففي ظل المتغيرات الثقافية انبثق خوف على الهوية الثقافية، وتوّهم كثيرون أن إحياء الأساليب اللغوية القديمة سيحول دون تفكك تلك الهوية، وذلك يعارض روح التغير التاريخي عند الأمم والمجتمعات، فلكل زمن أساليبه ومعاييره. وكان ينبغي تحديث الأساليب اللغوية بوساطة الحذف والإضافة والابتكار وليس بعث الصيغ القديمة التي قد لا تفي بشروط الحياة الحديثة، فلا بأس من تطوير الصيغ والأساليب والمفردات فكل ذلك يثري اللغة. تُعدّ اللغة مكونا أساسيا من مكونات الهوية، سواء أكانت هوية وطنية أو قومية، وحيثما يُذكر موضوع الهوية تقع الإشارة إلى اللغة باعتبارها الوسيلة الحاملة للأفكار، والمنتجة لها، فاللغة والهوية متلازمتان، وعنهما تنتج "الهوية الثقافية" لأي أمة من الأمم، وفي عالم يتقاسمه نزاع الهويات تشخص مخاطر تهدّد اللغة القوميّة، وهي مخاطر تشمل كلا من الذائقة الثقافية بما في ذلك الإنتاج الأدبي والفكري والفني، والذاكرة العامة بما في ذلك الماضي وكل ما يتصل به من تراث ومعتقدات وتخيّلات، ويتأدّى عن ذلك انقسام في طرائق التداول اللغوي، فذائقة النخبة تُحبس في نموذج لغوي يُحتذى بالتكرار، وأمر الحفاظ عليه يلازم النخبة ملازمة فيها من الهوس به بمقدار ما فيها من الخوف على ذلك النموذج الذي يظهر باعتباره مقوّما أساسيا من مقومات الهوية، أمّا ذاكرة العامّة فتتعرّض للتغيير بفعل آليّات التفكير الشفويّ، فهي تتقبّل التغييرات اللغوية لأنَّ نموذجها التعبيريّ متحوّل لا يعرف الثبات إنما يميل إلى التحوّل الذي قد يتّخذ صورة فوضوية فيها من الإبهام أكثر ما فيها من التنظيم، فتغيب النسقية عنه، أو تتوارى في أقل احتمال. وتنشطر الثقافة إلى ثقافتين خاصة وعامة، ويتبع ذلك ظهور هويتين، هوية تستعير مكوناتها من ثقافة النخبة ومعيارها اللغوي، وهوية تتغذّى على ثقافة العامة المنفتحة على التحوّلات، ولتحاشي هذا الانقسام لابد من ثقافة حيّة تهضم التناقضات، وتعيد إنتاجها بوصفها عناصر قوة لا عناصر ضعف. الثقافة الحيّة هي المنتجة لهوية تؤمن بالتنوع والتعدد والتجدّد، فلا خوف عليها من الانحسار أو الاندثار، على أن افتقار الثقافة للحيوية، والقدرة على التفاعل مع الثقافات الأخرى، وغياب الإنتاج العلمي والفكري بها، كلها أسباب تلحق ضررا بالغا باللغة وبالهوية، وتجعلهما، لغة وهوية، في مرتبة متأخرة، وذلك يفضي بالتدريج إلى خمول ذكرهما. الهوية هي الإطار الناظم للأفكار، والمعتقدات، والانتماءات، والأذواق، والتصورات، والعلاقات الاجتماعية، وبها تتميز أمّة من الأمم عن غيرها، وقد كان الارتماء في إطار هوية مغلقة، في العصور القديمة والوسيطة، أمرا محمودا؛ لأن الهويات كانت تقوم على قواعد من القيم الدينية، لكن تغييرا جوهريا طرأ على مفهوم الهوية في العصر الحديث، فأصبحت إطارا تمتزج فيه التصورات الدنيوية للتاريخ، والمعتقدات، والأخلاقيات العامة، وإذا كان القدماء قد نادوا بهوية صافية يقع تعريف المجتمعات بها تعريفا محددا وقاطعا، فقد ضاق ذلك المفهوم في العصور الحديثة، وأصبح مرنا، ومنفتحا، ومهجّنا، وجامعا لكثير من القيم والأفكار والعقائد، وأصبحت الهوية فاعلة بمقدار انفتاحها وعطائها وثرائها، وليس بانغلاقها على قوم أو معتقد أو مذهب. يمكن المحافظة على الهوية بالتفاعل مع الهويات الأخرى أخذا وعطاء وتواصلا، فأهم ما ينبغي الأخذ به الآن، هو "تعارف الثقافات" قبل التفكير بتحالفها، فالتعارف سابق للتحالف، ومدشّن له، وهو الخطوة الأساسية في كل ثقافة حيّة تريد أن تتفاعل مع الثقافات الأخرى، وتستفيد من مواردها، وتضع موروثها تحت تصرف الثقافات الأخرى، ولكن هذه المهمة شبه متعذّرة، في المجتمعات العربية، لأنها مجتمعات تقليديّة ما برحت ترسم صورا نمطية لماضيها، بما في ذلك لغتها، فتتخذه أصلا ثابتا لا ينبغي الانفصال عنه، فكل انفصال، بالنسبة إليها، نوع من التدهور والانحطاط، والابتعاد عن لحظة الإشراق، وفي ضوء ذلك تترسخ تقاليد وأعراف تكرس هوية منكفئة على ذاتها، وتلك التقاليد والأعراف تنتج لغة معيارية تستجيب لكل ذلك، ويُفهم الانقطاع عن تلك الهوية على أنه ابتعاد عن الأصل، ويُفسّر التجديد في اللغة باعتباره تهديدا لها. تحتاج اللغة العربية إلى نوعين من الحماية: حماية تداولية، وحماية اعتبارية. تتمثل الحماية التداولية بإصدار تشريعات قانونية تجعل منها اللغة المعمول بها في مؤسسات الدولة كلها، ووسيلة التداول الأولى في البلاد العربية، وبخاصة التعليم، والإعلام، والاتصال، فلا يجوز الازدواج اللغوي، وينبغي منع إحلال لغة محلّ اللغة العربية في بلاد تقول بهويتها العربية، بدواعي التنوع الثقافي، والامتثال لشروط العولمة، فوجود لغة معتمدة رسميا من طرف الدولة يعمل على صوغ مشترك أعلى للمجتمع يقع به التفاهم وتبادل الأفكار وتداولها، ولكن ليس ينبغي إهمال لغات الأقليات، أو محوها، أو منعها، سيما أن المجتمعات العربية تحتضن جماعات كثيرة لها لغاتها المخصوصة بها، وهي حاملة لآدابها وتاريخها، إنما السماح باستخدامها فيما تحتاج هي إليه، أما المجال العام فيفضل أن يتبنّى لغة يشترك الجميع في فهمها والتعبير بها عن مشاعرهم وأفكارهم، فالتواصل الاجتماعي يلزم لغة مشتركة فيها عمومية تفي بحاجة الجميع، على أنه لا يجوز إضعاف الاهتمام باللغات العالمية الكبرى باعتبارها مصدرا للمعرفة، بيد أنه من الخطأ إحلالها محل اللغة القومية، كما يقع في بعض البلاد العربية، لأن اللغة مقوّم من مقوّمات الهوية الثقافية، وإلى ذلك فاللغة ليست وسيلة تعبير فقط إنما هي وسيلة تفكير وتأمل، وفي ضوء ذلك ينبغي أن تكون العربية لغة الكتابة والبحث والتواصل العلمي، فيترسّخ أمرها، وتصبح متداولة فلا تتعرض لمخاطر الانزواء، والانحسار، ثم الانقراض، كما حصل لكثير من اللغات عبر التاريخ. أما الحماية الاعتبارية، فقوامها العمل على تقدير شأن اللغة العربية، وعدم الانتقاص منها، والنظر إليها على أنها عاجزة عن الاستجابة لمقتضيات العصر، إنما تطوير بنياتها الأسلوبية والدلالية، وتيسير قواعدها النحوية والصرفية، وتحرير معجمها من المهمل والغريب، والدفع بها إلى مرافق الحياة العملية لتتمكن من مواكبة مقتضيات التحديث العلمي والسياسي والتكنولوجي.