إن كان لديّ قضية في هذه الحياة فهو الإنسان، أياً كان موقعه، قاتلاً أو مقتولاً، فكلاهما يحمل ضعفه وخيباته. قد يعاني أحدهما أكثر من الآخر، ولكن هل يقلل هذا من درجة ألم أحدهما؟ ثم هل يقاس الألم؟ في مركز تأهيلي للإدمان بأميركا، حيث أتدرب، أخبرتني مشرفتي في أحد الصباحات، أنه وخلال الشهر المقبل، لن أقوم بعمل أي جلسة علاج جماعي، مراعاة لأحد المرضى الجدد. هو جندي سابق عمل في العراق ويحمل تجربة مؤلمة حول ذلك. وحين علم بوجود أخصائية عربية أصيب بنوبة هلع وطلب عدم الالتقاء بي نهائياً. هو مدمن للكوكايين منذ حادثة قتله صبياً عراقياً في التاسعة من عمره قبل ثمانية أعوام. اقترحتُ حينها مقابلته، فمن الواضح أن إدمانه مرتبط بتلك الحادثة، فلعل مقابلة امرأة سيكيولوجية من تلك المنطقة ستكون فرصة للتعاطي مع تلك التجربة القاسية، في مركز يفترض أن يمنح الأمان النفسي له. وافق دان وبعد تردد طويل على مقابلتي، شريطة وجود مشرفتي. أحضرته إلى مكتبي. تردد كثيراً في الدخول وكان يرتجف هلعاً. أعترف أنني كنتُ مرتبكة، فهي ليست جلسة علاج نفسي تقليدي. كان بطول 190 سم، بجسد رياضي صلب، ولكنه يرتجف كطفل صغير. جلس على الكرسي البعيد مطرقاً رأسه للأسفل من دون أن يصافحني. بدأت الكلام بالحديث أن الأمر مربك لكلينا، ومن ثم ليس عليه أن يحرج من ارتباكه. ثم حدثته عن أزمة الحروب عموماً، وأن الجميع مهزوم بشكل ما على المستوى الإنساني. وحكيته عن العمق التاريخي لمنطقة الشرق الأوسط، وعدم وعي أميركا بهذا، إضافة إلى البحث عن مصالح وقتية، أنتج كل هذه الفوضى، وجعل التدخل الأميركي يأخذ ذاك المسار. حينها بدأ حديثه قائلاً: «أثناء التدريب، وقبل الذهاب إلى العراق، حدثونا عن دورنا في الدفاع عن أميركا، ونشر القيم الأميركية. ذهبت هناك بهذا التصور. وحين وصلت إلى العراق وجدتني أتساءل: هذه ليست أميركا، إنها ليست حربُنا، إنهم يتصارعون في ما بينهم، وأنا حتى لا أستطيع التمييز بينهم. كانت الأصوات، المناخ، الروائح مختلفة، وتشعرني بأنني غريب. لم يكن أحد من أهل تلك الأرض يتحدث معنا، أو حتى يتبادل النظرات، ولاسيما النساء، كنَّ يتجنبن النظر إلينا، حتى ظننت أنني تحولت إلى شبح. كان الجنود منقسمين إلى ثلاث فئات، منهم من يرى أنها مهمة وظيفية، سيحصل على مبلغ مالي محترم، وكانوا الأكثر توازناً بيننا، ومجموعة أخرى أخرجت الحرب كل الجنون والقسوة بداخلهم، لا يفهمون ولا يريدون الفهم، لذا يمارسون اللعبة بحدها الأقصى، كانوا الأشرس بيننا. وفئة ثالثة أنتمي إليها، وهم الضائعون. تحاصرهم الأسئلة، ومع هذا يؤدون المطلوب منهم، وهؤلاء الأكثر عذاباً». في يوم ما كان هناك حظر تجول، وكانت مهمتي مراقبة الشارع وقت حظر التجول، فإذا بصبي في التاسعة من عمره يحمل حقيبة ويعبر الشارع. لم أكن أعرف أهي حقيبة مدرسية أم مليئة بالمتفجرات، ولكن وفقاً للتعليمات كان عليَّ إطلاق رصاص في حال كهذه، وهو ما فعلت. المفجع أنني في اللحظة التي كنت أضغط على الزناد، رفع الصبي رأسه لتلتقي أعيننا، في تلك اللحظة تماماً. نعم كانت عيني بعينه والرصاص تنطلق مني إليه. أليس جنوناً، إنني مكثت تسعة أشهر، لم يضع عراقي عينه بعيني إلا ذاك الصبي لحظة قتلي له. ومنذ تلك الحادثة، وأنا أستخدم الكوكايين؛ لأن ذاك الصبي يطاردني بنظراته تلك في أحلامي كل ليلة. منذ ثمانية أعوام لم أنم، أنا هنا لا للتخلص من الكوكايين، فقد توقفت أكثر من مرة، وكل مرة أعود إليه؛ لأنني أريد أن أنام. بعدها دخل دان في نوبة من البكاء والصراخ: أكرهكم، أكره العرب وأكره روائحكم. قبيل انتهاء الجلسة طلب مني أن أصلي معه صلاة الجنازة على روح الصبي. كان طلباً غريباً، فقد قال كلمة جنازة بالعربي، وهي الكلمة العربية الوحيدة التي سمعتها منه. ثم يطلبها مني وفي جلسة علاج نفسي. نظرت إلى مشرفتي فشجعتني. سألته إن كان يريد أن أكلم إمام المسجد ليرتب له، فقال: هو يحتاج إليها الآن. وقفت ودعوت ربي أن يلهمني القوة. صليت بالعربي بصوت مسموع، اعتقاداً أنه يحتاج إلى صوت يخاطب الله بالصوت نفسه الذي سمعه وقت حادثة القتل. حين انتهيت وجدته يسجد على الطريقة الإسلامية، أخذ يهمهم وسط دموعه. اقترب مني وقد زاد نحيبه، وكأنه لا يخاطبني باعتبار أخصائية نفسية، بل كأنني ممثلة عن أم لذاك الطفل أو الطفل نفسه، أو لعله يرى فيَّ العراق، باعتباري امرأة قادمة من المشرق. عندها رفعت رأسه ونظرته إلى عينيه مباشرة وقلت له: «أنا أم لصبي ومع ذلك أستشعر أمَلَك. دان، ما حدث ليس خطأك بل ورطتك، ولكل منا ورطته» نظرة الضعف والترجي التي رأيتها في عينيه من العمق، بحيث أظن أنني سأحملها طوال عمري. بعدها قابلته في طرقات المركز، ليلقي عليَّ تحية أعرف أنه يبذل جهداً مضاعفاً لإلقائها. بعد خمسة أشهر أرسل إليَّ يخبرني أنه أخيراً استطاع الحصول على وظيفة في أحد المطاعم السريعة، وأنه يفكر في أن يتطوع في أحد المراكز الكشفية مع الصبية، علَّه يستطيع إسعاد أطفال، والتخلص بشكل نهائي من تلك الأحلام. من دان تعلمت درسين مهمين أقلقني السؤال حولهما. أولهما: معنى وفلسفة العلاج النفسي. لا أؤمن بالإجابات القطعية أو الصرامة العلمية عند الحديث عن السلوك الإنساني وإرباكات المشاعر وتناقضاتها. دان لم يسعَ، ولم يكن يحتاج إلى علاج نفسي تقليدي، فقد دخل مصحات نفسية مرات عدة ولم ينجح الأمر معه، مع أنني موقنة أنه التقى أخصائيين أكثر مهارةً وخبرةً مني، ولكن ليس هذا ما كان يحتاج إليه. كان يحتاج إلى صوت قادم من هناك. أما أنا فكنتُ أريد إثبات أننا كذوات أكثر غنًى وعمقاً من وصفات علاج نفسي جاهزة، نحفظها عن ظهر غيب. الدرس الآخر، لطالما كانت الحرب إشكالية أخلاقية بالنسبة إليَّ. هل هناك حرب جيدة وأخرى لا، وهل هناك مبرر أخلاقي للحرب. الكل في الحرب ضحايا. حين يأتي الغريب ليقاتل في أرضك فأنت ضحية أكبر وحين تكون مدني، حظك جعلك تكون في المكان والزمان الخطأ، فأنت ضحية أكبر، ولكن هذا لا يعني أن الجنود ليسوا ضحايا. * كاتبة سعودية. Hendalsulaiman@