أستعير عنوان المقال من الأمير سلطان بن سلمان فهو يكرر هذه العبارة دائماً عندما يتحدث عن الوطن الذي يجب أن يكون في القلب فهو يرى أن أبسط مبادئ المواطنة أن يعرفه أبناؤه، فكيف يمكن أن يعشقوا وطناً لايعرفونه؟ والحقيقة أن هذه العبارة أثارت كثيراً من الشجون لدي فالعلاقة بين الإنسان والمكان علاقة أزلية ومؤثرة جداً في قيمه ومبادئه ونظرته للعالم، فكل إنسان ينطلق اجتماعياً من قيم مكانية راسخة ومتجذرة عبر علاقات زمنية ساحقة تشكلت فيها ذاكرة الإنسان والمكان معاً. عشق المكان الراسخ في الذاكرة الذي يتحث عنه الأمير سلطان يعبر عن مفهوم الوطن بكل أبعاده. أنطلق هنا من مناسبة اليوم الوطني الذي يذكرنا دائماً بالمسؤولية الكبيرة نحو الوطن فكيف نعيد بناء علاقة العشق مع الوطن بوصفه مكاناً يجب أن يعرفه المنتمون له. الفكرة التي يتحدث عنها الأمير هي "عيش السعودية" وفي اعتقادي أنها فكرة يمكن أن تبني الشخصية الوطنية على المستوى المكاني وعلى المستوى الاجتماعي. وأقصد هنا أن "عيش السعودية" جذورها مكانية لكنها فكرة تغوص عميقاً في التنوع الثقافي الجميل الذي تحتويه بلادنا وتؤكد ما للجغرافيا من تأثير في هذا التنوع الخلاق. المكان الأكبر الذي هو الوطن يحتوي الأمكنة الخاصة التي نعود إليها وتشكل مرجعيتنا الاجتماعية كلها تصنع عشق المكان الذي يريد أن يخلقه في قلوب المواطنين. هذه الفكرة جعلتني أستعيد الكثير من القضايا التي كنت قد قرأتها منذ فترة طويلة حول المكان "الذي لا يمكن نسيانه" على حد قول "جاستون باشلار" في كتابه جمالياً المكان وحديثه عن المكان "الذي يشعرنا بالأمومة" وهل هناك مكان أكثر من الوطن الذي يشعرنا بحنان الأمومة. أربط فكرة "عيش السعودية" بعبارة معروفة هي "لا مكان مثل المسكن" أو "لا مكان مثل الوطن" والوطن في اللغة الإنجليزية يقابل "المسكن" فكلمة Home تعني مسكناً ووطناً، وارتباط معنى الوطن بالمسكن لم يأتِ مصادفة بل هو جزء من المشاعر الأصيلة لدى الإنسان، فالمسكن يعني الاستقرار والاطمئنان وليس مجرد بيت عابر. بحثت في هذه المسألة كثيراً واكتشفت أن هناك بعداً آخر يمكن أن يضاف إلى هذه العلاقة الجوهرية بين الوطن والمسكن وهي أن المسكن من الناحية المكانية المادية يقابل وجود الجسد الإنساني، حسب فلسفة "أفلاطون"، أي أن الإنسان في أغلب الأحيان يربط بين وجوده المادي وبين الوجود المكاني وهذا ينطبق على الوطن، فهو تعبير عن الوجود المادي لأي منا وهو تعبير يستدعي أهمية معرفة تفاصيل هذا الوجود من الناحية المادية. أثناء دراستي للدكتوراه قبل حوالي عشرين سنة توقفت عند مصطلح Heimat وكنت أبحث في موضوع الهوية وعرفت أنه مصطلح ألماني ليس له مقابل في اللغة الإنجليزية لكنه ليس بعيداً عن كلة Home ويعني "علاقة الإنسان اتجاه المكان والمجتمع" ويعكس معنى إيجابيا، فالناس مرتبطون بال Heimat الخاص بهم (والمقصود هنا الوطن أي بوطنهم) نتيجة لولادتهم فيه وطفولتهم واللغة وتجاربهم المبكرة ومصائرهم المستقبلية. هذه العلاقة هي التي تصنع المواطنة وهي علاقة مكانية تنشأ منها الهوية وتتشكل وتتطور. المرجعية المكانية التي تبني الهوية وتغذي المواطنة هي الفكرة الجوهرية التي استند إليها الأمير سلطان لبناء مشروع "عيش السعودية" فهو مشروع ليس "ترفيهياً" وليس "استكشافياً" وإن كان يحتوي على الترفية والاستكشاف بل هو مشروع لاستعادة العلاقة بين المواطن و"المكان المرجع" الذي هو الوطن. يمكن أن أربط فكرة المكان "الوطن" بقول الشاعر "كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل"، وغاستون باشلار يتحدث دائماً عن "المكان الأول" إذ يبدو أن هناك علاقة "كيميائية" بين الإنسان والمكان الأول وهو هنا ليس مكان الولادة فقط بل المكان الذي نشأت فيه الذاكرة الاجتماعية التي بدأها الأجداد، فالمكان الأول يتجاوز مكان النشأة الشخصية بل هو مكان نشأة الذاكرة وبداية تشكل العلاقة المكانية التي تجعل من المخزون التاريخي عنصراً فاعلاً بقدر الواقع الجغرافي. الوطن هو المكان الأول لي ولأبنائي حتى لو ولدوا خارج الوطن وعلاقتهم بمكان النشأة الأولى أقوى من علاقتهم بمكان الولادة. ويبدو لي أن هذه الملاحظات حول المكان "المرجع" هي التي يجب أن نركز عليها في إعادة بناء علاقة أبنائنا بوطنهم، ولا أريد أن أكرر هنا ما لوزارة التربية والتعليم من دور في تحقيق هذا الهدف ولكن يجب أن تتحرر الوزارة أولاً من قيد الفصل الدراسي وتفتح أبوابها للوطن بكل مكوناته المكانية الهائلة. أعود مرة أخرى للعلاقة بين "المعرفة" و "العشق" وأؤكد على هذه العلاقة الحسية الوجدانية بين الوطن والمواطنين، فكلما تعرفت على المكان كلما تشكلت أسباب العشق لهذا المكان وأصبحت ممكنة، فلا نتوقع أن تنمو المواطنة والتعليم غافل عن بناء العلاقة المكانية بين الأطفال والشباب ووطنهم ولا نتصور أن يصبح الوطن عزيزاً في قلوب مواطنين أياً كانوا وهم محجوبون عنه ومبعدون عن شؤونه. فإذا أردت أن تبني المواطنة فلا بد أن يكون المواطن جزءاً من مشكلة الوطن وجزءاً من كل أمكنته. هذه القناعات لا تدرس نظرياً بل تمارس عملياً ويجب أن نعترف أن لدينا أزمة شعور بمسؤولية المواطنة وضعف شديد في علاقة شبابنا بوطنهم وهذا لا يمكن معالجته بالكلام بل بالمشاريع العملية كفكرة "عيش السعودية" التي تركز بشكل أساسي على "تسكين" الوطن في قلوب المواطنين من خلال معايشته والتفاعل مع كل الناس على ترابه والغوص عميقاً في حكايات أمكنته. اليوم الوطني كمناسبة يجب أن لا يكون مجرد يوم في العام، بل يجب أن يتحول إلى عمل طوال العام وأن يكون الاحتفال بهذا اليوم هو لتذكر المكتسبات الوطنية ولتأكيد الهوية التي تربطنا وتجمعنا، وهذ يتطلب مفهوماً مختلفاً لعلاقتنا بالمكان وبمخزونه الثقافي ويتطلب تربية جديدة للجيل الحالي كي يتعرف على الوطن ويتخلص من النزعة المناطقية والتقوقع على المكان الخاص ويفكر في المكان الأكبر الذي يجمعنا جميعا.