بريطانيا العظمى أصبحت تاريخاً من الماضي، والتي كان مواطنها يجوب القارات جندياً أو باحثاً أو عالم آثار أو شخصية استراتيجية ترسم مستقبل الشعوب، وتمزق خرائط وتعيد بناء أخرى، وكانت تنعم بأكبر اقتصاد على وجه الأرض، دعَم الحياة داخلها في بناء المدن والجامعات والمصانع واستقطاب العلماء حتى إن تراث الشعوب وتاريخهم وحياتهم الدقيقة تملك بريطانيا لها سجلات لا توجد عند غيرها، وإن وثائقها وعلاقاتها وحروبها أصبحت مخزوناً كبيراً للباحثين والعلماء في كافة الاختصاصات.. هذه الإمبراطورية التي قيل إن الشمس لا تغيب عنها كأكبر تجمع بشري تحت سلطة دولة صغيرة حكمت معظم دول العالم، تتعرض الآن للتآكل من داخلها، والسبب أن تلك الإمبراطورية التي قسمت ولاءات الشعوب وفق أديانهم وقومياتهم وفصائلهم، أصبحت تتعرض لما كانت سياستها تقوم عليه، فإيرلندا أقامت حرباً معها بسبب اختلاف الدين والقومية، واسكتلندا بدأت حركة انفصالية منذ أزمنة بعيدة، لأنها قبل ثلاثة قرون كانت دولة مستقلة، وهذا ما جعل الحكومة المركزية، أو المملكة المتحدة تحديداً، تعيش حالة جديدة من التفكك، وهو ما سينعكس على الاقتصاد والعضوية في الاتحاد، وتعقيدات أخرى قانونية وسياسية، بما فيها مخاوف دول أوروبية أخرى مثل أسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا، من أن تصيبها حمى الانفصال، وحتى أمريكا التي تراقب بحذر هذه الخطوة تجد أن أعظم ديمقراطية للنظام البريطاني لم تحمها من صعود روح القومية، على الدولة المركزية، وهذا يؤكد أن خلافات العالم الثاني والثالث في السعي لإقرار حق المصير لا تنفجر بسبب الوعي الضعيف أو نزعة الانفصال لهدم الدولة، وإنما بسبب التراث العريض وعلاقة الإنسان بجذره وهويته، وهو ما يصعب تحقيقه كحق طبيعي، إلاّ في دولة مثل بريطانيا جعلت شرعية القانون فوق الاعتبارات العاطفية، وهو منجز التراث الحضاري لهذا البلد.. لكن مع افتراض أن تم الانفصال واستقلت اسكتلندا، فالموضوع سابقة جديدة في تاريخ أوروبا الحديث، وهذا يعني أن قوميات أخرى داخل المملكة المتحدة قد تطالب المعاملة بالمثل إذا شعرت أن مقومات الدولة يمكن أن تقوم وتعيش، ما يعني أن بريطانيا بهيكلها وسلطتها وقوتها الكبيرة سوف تتضاءل أمام دول أخرى في الأهمية السياسية والاقتصادية على اعتبار أن وزنها العالمي سوف يتناقص.. بعض دول أوروبا أعلنت ما يشبه الإنذارات من هذه الخطوة، برفض قبول اسكتلندا في عضويتها وسوقها، وهو عقاب يأتي من تداعيات المخاطر القادمة أمام عالم يتبلور بقوة مختلفة وخاصة آسيا التي أصبحت اللاعب القادم في الهيمنة الاقتصادية والسياسية.. الآثار الناتجة عن هذا الاستقلال في أهم الدول الأوروبية، تضع العالم على عتبة مرحلة أخرى سوف تنسف مبدأ الوحدات للدولة الواحدة، وكذلك مستقبل الاتحادات الدولية الأخرى بما فيها الاتحاد الأوروبي.. لقد غيبت الشيوعية الشعور الديني والحس القومي لصالح الدولة الشمولية، وأوجدت دولُ الشرق والغرب حلفيْ وارسو والأطلسي، ومع ذلك لم تخف سطوة العرق والقومية، وهذا ما يفسر أن الشعور الجمعي لأي شعب سيبقى هو الأقوى بالضغط على الاستقلال مهما كانت النتائج والأسباب.