×
محافظة عسير

فرق “المدني” تنقذ خميس مشيط من كارثة

صورة الخبر

صحيح أن أصوات طبول الحرب على سورية شهدت خفوتاً في الأيام الأخيرة. وهذا ما يستدل عليه من خطاب أوباما الأخير الذي يدعو فيه إلى إفساح المجال أمام الحل الديبلوماسي، طالباً من الكونغرس إرجاء التصويت على طلبه استخدام القوة. وقد يكون صحيحاً أيضاً أن رفع الصوت القارع والمؤذن بضربة عسكرية أميركية جاء أصلاً لاستكشاف خريطة الاصطفافات بعد تقلبات في غير بلد من بلدان «الربيع» العربي وفي مقدمها مصر. التلويح بالضربة هو، في هذا المعنى، طريقة لجس نبض القوى المتنازعة إقليمياً ودولياً واختبار مدى انضوائها في لعبة الأمم التي أطبقت على المسألة السورية وأخرجتها عملياً، وإن تدريجاً، من النطاق الوطني السوري لتصبح مسرحاً للعبة الكبرى. الحديث عن عودة «اللعبة الكبرى»، وفق توصيف ذائع الصيت عن الصراع حول أفغانستان وجوارها الإقليمي في القرن التاسع عشر، ليس ضرباً من المجاز. فقد تذرعت الإدارة الأميركية بقضية استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة واتهمت النظام السوري باستخدامه من دون أدلة مقنعة على قاعدة أن جسمه «لبّيس». وقد رأى كثيرون وبحق أن الذريعة الحالية لشن هجوم على سورية تشبه كثيراً تلك التي لجأ إليها المحافظون الجدد لغزو العراق في عهد جورج بوش السيء الذكر. ذلك أن الإدارة الأميركية الحالية رفضت غير مرة المصادقة على اتهامات باستخدام النظام الأسدي السلاح الكيماوي وهي اتهامات لم تصدر فقط عن قوى بارزة في المعارضة السورية في الخارج، إذ صدرت أيضاً، قبل شهرين تقريباً، عن قوة دولية حليفة لأميركا إضافة إلى كونها عضواً فاعلاً في مجلس الأمن، وهي فرنسا. هناك عوامل عدة ساهمت في ترجيح المعالجة الديبلوماسية وتأجيل الضربة العسكرية التي لا يعرف أحد نتائجها ومضاعفاتها على غير صعيد. سنسارع إلى القول إن هذه العوامل تتضافر بحيث تؤول إلى تغليب لعبة التفاوض الدولي باعتبارها فن المناورة الحربية بوسائل أخرى. في مقدم هذه العوامل الديبلوماسية الروسية المتزايدة الوزن، ليس على النظام السوري وحلفائه الإقليميين فحسب، بل كذلك على اللاعبين الآخرين. فالاقتراح الروسي بوضع أسلحة النظام الكيماوية تحت الرقابة الدولية وموافقة الأخير عليه وعلى قرار حظر انتشار مثل هذا السلاح أربكا دعاة الضربة العسكرية، وقدما مخارج لائقة لدعاة الهجمة الحربية المندفعين بمقدار ما هم مترددون ومتخوفون من العواقب والتداعيات. وكان طبيعياً أن يشعر الهواة بخيبة الأمل. ينبغي التذكير بأن الروس سارعوا، غداة الإعلان عن المجزرة في الغوطة، إلى وصف الاتهام بأنه مناورة استفزازية مفبركة ولم يترددوا في تقديم أدلة على انطلاق الصواريخ من مناطق تسيطر عليها المعارضة. لن ندخل هنا في معمعة السجال والمناظرات التقنية حول المسؤولية عن المجزرة. العامل الثاني يتعلق بالرأي العام وبما أظهرته الاستطلاعات من رفض غالبية متزايدة في أميركا، وفي فرنسا أيضاً، للحرب وللتورط العسكري المباشر في مغامرة مجهولة التبعات على رغم الوعود الإعلامية القاطعة بمحدودية الضربة وبطابعها العقابي بسبب انتهاك النظام السوري المفترض الخطوطَ الحمر التي أفصح عنها الرئيس الأميركي، معولاً على انتصار الجمهور لهيبة القوة العظمى ومنظومة قيمها العالمية. غير أن أهمية الرأي العام تبقى نسبية جداً. فقد سبق لإدارات «ديموقراطية» أن خاضت حروباً كانت غالبية المستطلعين لا تؤيدها. حصل هذا في بلدان غربية، وفي زمن قريب أيام التحالف الدولي لاجتياح العراق. هناك دولة واحدة وأطلسية رفض برلمانها ورأيها العام السماح للقوات الأميركية بعبور أراضيها على رغم إغراءات مالية ضخمة فاقت عشرين بليون دولار، ونعني تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية. مع ذلك، نرجح أن تكون الإدارة الأميركية الحالية أكثر التفاتاً لاتجاهات الرأي بالنظر إلى رطانة دعوة أوباما إلى عدم التورط بحروب جديدة بعد إخفاق التجربتين العراقية والأفغانية وما ترتب عليهما من حاجة إلى ترميم صورة أميركا عالمياً عبر تحسين أدائها عموماً وحيال حلفائها خصوصاً. العامل الثالث، ويعنينا أكثر من غيره، يتعلق بتجوّف القوام الوطني السوري بسبب جموح طرفي النزاع، وهما في الواقع أطراف واتجاهات عدة، نحو تصورات استئصالية ما أضعف فرص الاستقلال بالقرار والتطلعات الوطنية السـورية وأفسح المجال لازدهار مجموعات وكتائب مسلحة مشتقة في معظمها من تنظيم القاعدة أو ما يشابهه. وجاء تدفق الجهاديين من كل حدب وصوب حاملين معهم لغة استئصالية صريحة وممارسات هاذية، ليقلل وزن القوى المدنية وفعاليتها التي شاركت بقوة في الحراك في الأشهر الستة الأولى بحيث باتت الواجهة المدنية تبدو في نظر كثيرين أقرب إلى أن تكون في عداد الهوامش فيما انتقل متن النزاع إلى قوى أخرى. الهجوم على بلدة معلولا العريقة ذات التراث المسيحي التاريخي وما صحبه من بيانات إسلاموية تتحدث عن الصليبيين، إضافة إلى الاعتداء على الأديرة والكنائس، أمر يبعث على القلق. والهجوم يُضاف إلى سلسلة من المجازر والاعتداءات التي طاولت المسيحيين وسواهم ما ينذر بنشر عقيدة حرب الكل ضد الكل، بما في ذلك خطف المطرانين ومعهما المطران الإيطالي المعروف بتأييده للمعارضة. اللافت هو بالضبط التباس مواقف قسم بارز من قوى المعارضة المدنية حيال تنامي ظاهرة الجهاديين التكفيريين. وهذا الالتباس الذي لم يقتصر على الواجهة الخارجية للمعارضة، فشمل قوى غربية تزعم الدفاع عن العلمانية، بات يجيز الظن بتواطؤ متعدد الأشكال تمليه الحاجة إلى مقاتلين بأي ثمن، بل يثير الشبهة بضلوع دول وأطراف إقليمية بتصدير هذه المجموعات أو السماح لها بالمرور من أراضيها إلى الداخل السوري. إنها طريقة لخوض الحروب بواسـطة التهـريب كما لو أنها سوق سوداء. ومع تفاقم الاغتيالات التي استهدفت ضباطاً وعناصر في الجيش الحر وتفاقم الحروب الدورية بين التنظيمات الإسلاموية القاعدية والأكراد، لا يعود هناك شك في أن هذه التنظيمات تعمل وفق تصورات مدمرة لما تبقى من النسيج الوطني السوري. وسط كل هذا يتشبث النظام بلعبة ابتزاز يحفظ فيها سلطته بدعوى الدفاع عن الدولة والمؤسسات. التذرر الأهلي بكل أشكاله هو ما يفتح الباب أمام تحول سورية إلى مسرح للعبة دولية كبرى ومفتوحة.