في وقت تدور فيه نقاشات حامية حول من يشارك في «لجنة الخمسين» لتعديل الدستور المصري، أو صوغ واحد جديد ما يمهد لإرجاء الانتخابات التشريعية والرئاسية إلى أجل بعيد، وفيما تغيب استطلاعات رأي تجريها مؤسسات محايدة، يبدو كأن الجمهور المصري يتعرض لهجوم شرس من وسائل إعلام أحادية اللون. لا ريب في أن مواجهة عسكرية تجري في شمال سيناء بين الجيش المصري والمجموعات «الجهادية». لكن المنطقة مغلقة أمام الصحافة المستقلة ولا مجال للحصول على أية معلومات من غير مصادر الناطق العسكري أو تسريبات لبعض سكان المنطقة. لكن المواجهة لا تختزل بعملية أمنية لتفكيك خلايا اعتدت على الجنود المصريين في عمليات سمتها الغدر والخسة. بل إنها تقول أيضاً إن السلطات المصرية، وبعد عشرة أعوام على التفجيرات التي استهدفت المنتجعات السياحية جنوب سيناء، عادت إلى الحل الأمني وسياسة القبضة الحديد التي أثبتت منذ ذلك الحين بؤسها وإفلاسها. لا مشكلة عند الحكومة المصرية. فالجانب الثاني من موضوع سيناء يُستثمر في أماكن بعيدة جداً عن شبه الجزيرة. ويمكن العثور على ملامحه في حملات الاعتقال لكل من يُشتبه في تأييده جماعة «الإخوان المسلمين» والمشاركة في نشاطاتهم. ومثل كل الأنظمة المذعورة، تتخذ الاتهامات منحى كوميدياً في كثير من الأحيان. لائحة الاتهامات الموجهة إلى الرئيس السابق محمد مرسي التي تبدأ من «التخابر مع حركة حماس» ولا تنتهي بـ «التخطيط لاغتيال الفريق عبدالفتاح السيسي»، تعطي فكرة عن مدى الاعتباط والكيدية الذي تعامل به السلطات خصومها، من جهة، ومستوى فهمها واحترامها لنصوص ولروح القوانين التي تحولت أدوات مثيرة للسخرية في أيدي ضباط متعطشين للانتقام، من جهة ثانية. تكاد الأقلام والأصوات التي احتفظت بمقدار من العقلانية في وسائل الإعلام تُعد على أصابع اليدين، فيما انخرطت الكثرة منها في هجوم لا يعرف أول له ولا آخر على جماعات الإسلام السياسي، وسط مباراة في توجيه الاتهامات يداني كثير منها الخيال الطفولي. وباستثناء الأصوات القليلة هذه، يبدو المشاهد والقارئ المصري كمن يتعرض للضرب على رأسه بمطرقة حديد ومع كل ضربة يصدر صوت «الإخوان فعلوا... الإخوان ارتكبوا... الإخوان كذبوا... الإخوان تآمروا» إلخ. كل أو جل ما يُنسب إلى «الإخوان» من ممارسات وانتهاكات قد يكون صحيحاً وقد لا يكون. لكن الصحيح قطعاً، هو أن «الإخوان» سقطوا بفعل حركة اعتراض شعبي عريض، ولن يعرفوا طريقاً للعودة إلى السلطة في مستقبل قريب. وهذا بصرف النظر عما يقال عن دور لـ «الدولة العميقة» في حشد المعارضين لحكم «الإخوان» وافتعال المشكلات أمامهم. لقد سقط حكم «الإخوان» لأسباب كثيرة يتعلق أبرزها بفهمهم القاصر لحدود التفويض الذي حصلوا عليه ولطبيعة المجتمع المصري. ولكن، هل يبرر ذلك تلك الحملة التي تصور أن السيسي هو المنقذ الذي منّ الله به على مصر وأن أي بديل عنه (وعن عودة الجيش إلى الهيمنة على الحياة العامة) يعني الفوضى وضياع البلاد وانهيار الاقتصاد؟ محاولة الإجابة تقتضي السير في الاتجاه المعاكس، بمعنى تصور تولي السيسي الرئاسة والتفكير في رؤيته لنظام الحكم ولعلاج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تئن مصر تحت أعبائها منذ عقود. يمكن التـساؤل هنـا أيضـاً عن تصوره للحريات المدنية والفردية والصحافة المستقلة ودور مصر الإقليمي. لن نفاجأ إذا كانت رؤى السيسي والصف الأول من قيادات الجيش المصري لا تختلف قليلاً أو كثيراً عن تلك التي اعتمدها حسني مبارك، أي اللارؤيا وتسيير الأمور على قاعدة المياومة. فالمشكلة التي تظهر اليوم نبحث اليوم عن حل لها. ومن الملاحقات الأمنية الكثيفة ومن تهليل أوساط معينة من المصريين للعنف الذي مورس في ساحة رابعة العدوية وغيرها من الأماكن، يبدو أن ليس هناك ما يُبنى عليه للوصول إلى «مهدوية» النظام المقبل أو «خلاصيته». بل الأرجح أنه سيكون تكراراً مملاً لحكم مبارك العديم الكفاءة والمبادرة. الاعتقالات التي اتسعت لتشمل بعض الناشطين اليساريين وعودة الإشكالات التي تثيرها المحاكمات العسكرية، تشير إلى وجود ميل سلطوي قوي لا يرغب في الاعتراف بأية حدود قانونية. هذه النظرة التشاؤمية ينقدها (وينقضها) عمق الحراك المصري في العامين الماضيين. ولعله ليس من الإفراط في التفاؤل القول إن رقابة غير حكومية يديرها شبان شاركوا في ثورة 25 يناير وفي تظاهرات 30 يونيو، ما زالت على قيد الحياة على رغم طوفان الدعاية الرسمية الجديدة، وإن المعركة لم تنتهِ تماماً بعد بعودة النظام العسكري - الأمني وقاعدته الاقتصادية الطفيلية. طبعاً، لا يتعلق الأمر بعودة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة ولا بمنحهم صك براءة عن فشلهم في الحكم. ولكن، بين هذا وبين انتشار شعار «السيسي رئيسي»، لا بد من طرح الأسئلة المركّبة والرافضة للإجابات الآتية من بداهات خربة.