يقول النبيُّ الكريمُ صلى اللهُ عليه وسلم؛ مُلخصاً غايةَ دعوته ومقصدَ بعثه (إنما بُعثتُ لأتممَّ مكارم الأخلاق)، وهذا يدل بشكلٍ واضحٍ وجلي على عِظم مكانةَ الأخلاق في دينِ الله، لذلك لا تستغربنّ عندما تقرأ عنه صلى الله عليه وسلم أن أقرَبَ الناسُ منه مجلساً يوم القيامةِ هم آحاسنهُم أخلاقاً!! ونحن نعيش في زمنٍ عجيبٍ غريبٍ نعيشُ فيه أزمة أخلاق! ونفتقدُ فيه حُزمةً من مكارم الأخلاق لم نعد نسمعُ بها أو نراها إلا في بطون الكتب! بات هذا الجيلُ لا يعرفُ قيمةَ ولا مغزى مفرداتٍ ومعانٍ عظيمة القدْر جليلة الأثر، من أمثال: الكرم، المروءة، إغاثة الملهوف، قضاء حوائج الخلق... وأصبح جيل اليوم بل وحتى من قبلهم يفتقدُ هذه المعاني على أرض الواقع بل وحتى على سبيل التنظير والقراءةِ والتثقيف! قبل أشهر التقيتُ رجلاً من الرعيل الذي لا يزالُ يعيشُ مكارم الأخلاق في نفسهِ وواقعه، لأنه تربّى ونشأ عليها ورآها متجسدةً في مجتمعهِ وبني قومه، استمعتُ من هذا الرجل لقصةٍ نادرةٍ هي غايةٌ في النبل والكرمِ ومكارم الأخلاق، تمنيتُ لو أنها تُذاع وتُشاعُ في كلِّ نادٍ ووادٍ ليستفيد منها الجيل والأجيال، وحتى تُعيد في نفوسنا بعض الأمل! هذا الرجل هو الشيخ الشاعر: فحيمان بن عودة الحجوري الجُهني من سكان محافظة (أملج) الشاعر حكا لي قصتَه التي وقعت له من قبل عقود من الزمان، عندما ذهبَ في الخامس من شهر ذي الحجة في 1405هـ لزيارةِ قريبٍ له في سجن المرور في المدينة المنورة، ورأى رجلاً من قبيلةٍ أخرى؛ قبيلة (شمّر) موقوفاً هو كذلك، وشدّه وأثّر فيه كون هذا الرجل الموقوف في لباس الإحرامِ لم يحَلَّه بعد!! فطلب الجلوس معه؛ وسأله عن قصتهِ فأخبرهُ أنه جاء من حائل مع مجموعةٍ كبيرة من جماعته إلا أنه تسّبّبَ في موتِ امرأةٍ بسيارتهِ؛ وذهب قومه إلى مكةَ وبقي هو هنا موقوفاً محصوراً مهموماً؛ قد حبسَه عن البيت هذا الحابس!! فتفاعل صاحبنُا مع قصته وتحركت لديه نوازع مكارم الأخلاق التي نشأ عليها؛ وقرّر مساعدة هذا المُحرم الموقوف، والمسلمَ الملهوف! يقول: فطلبتُ منه فقط أن لا يُحلّ إحرامه حتى آتيه بالخبر اليقين وعند جهينة الخبر اليقين فذهبَ لا يلوي على شيء إلا أن (يُدبِّرَ) مبلغ الدِّية ويدفعها لبيت المال ثم يسعى في إطلاق هذا الغريب الحاج حتى يتمكن من أداء النسك وشهود الموسم، ومن أجل ذلك: اُضطُرَّ وبنفسٍ راضية إلى رهنِ بيته الوحيد مقابل مبلغ الدية!! فكان له ما نوى ليفك عن صاحبه تلك البلوى! وجاء في اليوم الثاني "السادس من الحجة" وسدّدّ المبلغ ثم التقى بأمير المنطقة شافعاً وراجياً أن يُطلق سراح الرجل حتى يُدرك الحج، فيسر الله له كل ذلك في يومين، فما أن جاء صباحُ اليومِ السابع إلا وأمرُ الإطلاق قد جاء، وقام بتجهيز سيارةٍ خاصةٍ لصاحبه تنقله معززاً مُكرماً إلى مكة؛ حتى أدرك الحج بفضل الله وتوفيقه! فانظر لهذا الرجل الكريم الشهم كيف أغاثَ رجلاً لا يعرفهُ، مع ضيق ذاتِ يده وقلةِ حيلته؟! إلا أنّ اللهَ أعانه ووفقه لهذا الخير وتلك المنقبة (واللهُ في عون العبد ما كان في عونِ أخيه).. هذا الموقف لاشك كان جميل الأثر وعظيم التقدير من الرجلِ الذي كان موقوفاً؛ ومن قومه كلهم، بل وحتى من قبل ولاة الأمر وفقهم الله لأنهم يفرحون بمثل هذه المواقف النبيلة ويرغبون أن تشيع في أوساط المجتمع. فطلب الأمير الراحل سلطان رحمه الله مقابلته، فكرّمه وأكرمه وأثنى على موقفه، وكذا عدد من أصحاب السمو الأمراء والوجهاء كانوا قد سمعوا بهذه القصة وسعدوا بها وحرصوا على لقاء هذا الكريم وتكريمه. لاشك أن توفيق الله كان حاضراً في هذه القصة، وليس كلُّ أحدٍ يُوفّق لمثل هذا الخير، وأيضاً فإنّ تربية هذا الرجل على مثل هذه المكارم ومعرفته لقدْرها عند الله والناس كان لها أثرُها في دفعه لهذه النجدة حتى ولوعلى حساب رهن بيته!! ذكرتُ هذه القصة الجميلة حتى نعيد لأنفسنا شيئاً من الأمل، ونثبت أن الأمةَ لا تزالُ بخيرٍ بإذنِ الله، وحتى يشيع في ثقافتنا واهتمامنا مثل هذه المكارم، فقد زاحمت عقولَ شبابنا أخبارُ الرياضة والفن والتقنيات والتقليعات... إلخ، وابتعدوا كثيراً عن هذه الأخلاق وتلك المكارم، في واقعهم وبيوتهم وثقافتهم!! fhdg1423@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (67) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain