عندما أسافر على سبيل المثال إلى إحدى الدول الاسكندنافية، وأشاهد كيف يعيش الناس هناك في هدوء وسلام، أشعر أن ثمة فوارق جوهرية بين تلك البيئة المتصالحة مع نفسها، وبين ما يحدث في المنطقة العربية من توتر وتجاذب وتضاد، ثمَّ أتساءل، هل توجد علة واحدة تفسر ذلك الاختلاف الكبير بينهم وبيننا؟ أم أن الأمر كلّّه له علاقة بالبيولوجيا والجغرافيا والبيئة، أم أن تلك الصورة المتصالحة والمسالمة في بعض دول الغرب كانت نتيجة لعمل متواصل من فحص ونقد للأسس القبلية في تلك الحضارات، ثمَّ تفكيكها، وتسريح أفكارها المعلبة، التي بفضلها تفوقت المعرفة العلمية، على دوغمائية الأسس القبلية، وحدثت المعجزة الإنسانيَّة في الوصول إلى حالة السلم الدائم.. في كثير من الأحيان تبدو الصورة لدينا أن أزمة التفكير لدينا نابعة من أزمة العقل الديني، الذي يقدم نفسه في هذا العقد في صورة متشنجة وغاضبة، قد تصل إلى التوتر الشديد والانفجار، ويستمد العقل الديني تطرفه من حصون الانغلاق والتقوقع حول مقدمات تَمَّ صياغتها في الماضي، ويرفض العقل الديني المتزمت أن تتعرض للنقد والتشريح، بالإضافة إلى اعتقاده أنه وحده يحتكر الحقيقة، وأنه وحده العارف ببواطن الأمور، لذلك يقدم نفسه على أنه الحارس الأمين لهذه الأمة، وأنه يحمل رسالة الحفاظ على هويتها، ولو وصل الأمر إلى القتال واستخدام العنف.. لكن لو تأملنا على سبيل المثال العقل الاقتصادي في هذه المنطقة، لظهرت رؤية منسجمة مع تلك النظرة النقديَّة للعقل الديني، فالاقتصاد في عالم العرب كان ولا يزال يدار بعقل أناني ومتطرف ومنغلق في كثير من قراراته، ويعتمد في خططه الاقتصاديَّة على معارف قبلية تبرر لها حق احتكار المنافع، وبسبب افتقار ذلك العقل إلى التجديد والابتكار واحتكامه إلى حق الاحتكار، ما زالت نتائجه من أهم أسباب البؤس في المنطقة العربية، الذي ينذر بكوارث اقتصاديَّة واجتماعيَّة خطيرة، قد تصل إلى حد المجاعة والتشرذم في بعض البلدان. ينطبق ذلك أيْضًا على العقل السياسي، الذي يشترك مع التطرف الديني في نفس الجذور، ومع مزيد من التنقيب في ذلك الاتجاه، سنجدهما مترابطين فيما بينهما ترابطًا مؤسسيًا، أيّ أنها مترابطان بكيفية موحدة على أساس وحدة داخلية كما يسميها النابغة إيمانويل كانط.، لذلك أحيانًا أجد تشابهًا كبيرًا بينهما لدرجة صعوبة تحدد أوجه الاختلاف بينهما، فكلاهما يعتقدان أنهما أصحاب حق مطلق، وعلى الجميع الانصياع إليه، وعدم التشكيك فيه. ومن أجل إكمال الصورة التي أحاول جاهدًا أن أرسمها، يدخل في ذلك العقل الاجتماعي وصورة الأب في العرف القبلي، الذي يحتفظ حواليه بهالة من الجاه والخصوصية الاجتماعية، التي تنطلق من أعراف ماضوية لا تستند إلى مبررات معرفية، لكنها مسلمات لا يقبل أن يَتمَّ التشكيك بها، لذلك لا يكاد تخلو ساحة الصراعات في المنطقة من رموز الأعراف الاجتماعية. يظهر تأثير تلك العقول مجتمعة في العقل الإداري على مختلف الأصعدة، الذي حسب وجهة نظري يُعدُّ بمثابة مدير حملة الدعاية لمصالح العقل المتجمد، الذي اعتاد أن يتحدث من خلال نبرة فوقية، غير قابلة للمراجعة، لذلك يندر أن حدث تراجع عن قرار إداري ما، وذلك في تجسيد لتلك المتلازمة الماضوية، التي تظهر أن الجسد العربي في هذا العصر يعاني من أزمة عقل في مختلف الصعدة، وليس فقط في العقل الديني، ولكن أيْضًا في العقل السياسي والاقتصادي، وهو ما يفسر الفشل في الخروج من أزمة التطرف والإرهاب المعاصرة بعد عقود من انطلاقها.. خلاصة القول إننا نعاني من أزمة عقل شمولي، وتشترك بعض المسلمات الماضوية في تكوينه، وفي إذكاء أجواء الصراع في المنطقة، وفي طرد السلام والأمن الاجتماعي منها، الذي نشعر بفقدانه عندما نسافر إلى أماكن تخلصت من حاكمية العقل الدوغمائي، بعد إطلاق أجواء الحرية وأساليب النقد للعقل، وكانت النتيجة السلام والأمن الاجتماعي والسياسي والثقافي، بينما يعاني الإنسان العربي من ويلات الحرب والجوع والمرض أن نصل إلى قناعة مفادها أننا نعاني من أزمة عقل عام، والله المستعان.