يسأل مقدم البرنامج ضيفته دينا عن مهنتها كرقّاصة. وترد مصححة: «راقصة، أرجوك». إن القضية لغوية، إذا شئتم، والفرق بين الاشتقاقين كالفرق بين فاعل وفعّال، وكاذب وكذّاب. وهو ما يسميه أهل الفصاحة «صفة المبالغة». فالكاذب قد يرتكب الفعل مرة أو مرات قلائل، مثل كلينتون. أما الكذّاب فهو مثل نتنياهو، يسوقها على طول الخط. تذكرت تعقيب الفنانة المصرية وأنا أتصفح كتابا بعنوان «الباليرينا والقائد»، عن سيرة أليسيا ألونسو، مديرة الفرقة الوطنية للرقص الكلاسيكي في هافانا وعلاقتها بنظام فيديل كاسترو. إنها من مواليد 1920، أي أكبر منه بست سنوات، ومع هذا فإن صورة الزعيم الكوبي تراجعت عن مقدمة المشهد، بسبب الشيخوخة والمرض، أما هي فما زالت في موقعها منذ أكثر من نصف قرن، لم تتقاعد حتى الآن. ولو جيء بهذه المخطوطة إلى ناشر يهوى التجارة لوضع للكتاب عنوان «راقصة كاسترو». وعندها فإن السنيورة أليسيا كانت ستأخذ على خاطرها لأنها «باليرينا»، أي فراشة من فراشات رقص «الباليه» الذي يحلق بأرواح متفرجيه فلا تتركز أنظارهم عند الوسط. هل تذكرون البيت الشهير للشاعرة لميعة عباس عمارة: «حلّق... فلو طأطأت لا تراني»؟ وما دمنا في صفة المبالغة فإن الكتب «الفضّاحة» كثيرة في المكتبات هذه الأيام، تتصدر الواجهات وتتقدم على ما غيرها من مؤلفات وتؤمّن لأصحابها عائدات دسمة. لكن سيرة الراقصة التسعينية ترتقي بالفضيحة إلى تلك المنطقة الرمادية المعتقة على مر العصور، حول علاقة المثقف بالسياسي، وما بين الاثنين من تجاذبات وإغراءات ومصالح. هل تُقاطع كاسترو وتهجر فنها الذي هو حياتها أم تسايره وتجيّر فرقتها له وتواصل تنفسها على المسرح؟ المؤلفة، إيزيس ويرث، عملت مع أليسيا ألونسو لمدة عشر سنوات وكانت المسؤولة الإعلامية عن الفرقة. وبعد ذلك هجرت هافانا وأقامت في سويسرا، حيث نشرت الكتاب الذي نفهم منه أن الراقصة كانت أشهر من كاسترو. فهي راقصة كوبا الأولى من قبل وصوله إلى السلطة. وقد قدمت عروضا فنية، في أربعينات القرن الماضي، أمام الزعيم الأرجنتيني بيرون ورئيس كوبا السابق الجنرال باتيستا. ثم اختلفت مع النظام لأن مسؤولا ثقافيا أوقف مخصصات فرقتها، معتبرا أنها كانت تضعها في جيبها الخاص. وللتعبير عن غضبها انتقلت ألونسو لتعمل على مسارح نيويورك. ولما تغير النظام في هافانا، استغلت ذلك الخلاف المالي وراحت تقدم نفسها باعتبارها منفية بسبب معارضتها للديكتاتور. سعى الثائر الملتحي الشاب، الذي تسلم الحكم بعد باتيستا، لاستمالتها والاستفادة من احترام الجمهور لها. فاستدعاها من الخارج وطلب منها التعاون لتأسيس «الباليه الوطني الكوبي». لقد أمم فرقتها، في الحقيقة، وحذف اسمها وعيّنها مديرة للفرقة الجديدة. منذ ذلك الوقت صارت من الركائز الثقافية للحكم الجديد. لكن المؤلفة تشكك في ولاء الراقصة للنظام الشيوعي وخشيتها منه، وتكشف وقائع جرى التعتيم عليها، منها أن عشرة راقصين انتهزوا فرصة رحلة فنية للفرقة إلى باريس، أواسط الستينات، وطلبوا اللجوء السياسي. وكادت العروض تلغى وتم استدعاء موظفي السفارة الكوبية وإلباسهم ثياب الراقصين لإنقاذ الموقف كيفما اتفق. ولما عادت الفرقة، ناقصة عشرة، إلى هافانا، قوبل العائدون استقبال الأبطال وكتبت الصحف المحلية أن المنشقين كانوا من المنحرفين جنسيا. تراجع بصر الراقصة، في السنوات الأخيرة، وصارت شبه عمياء. لكنها وقفت على المسرح وهي في الحادية والتسعين من العمر، تخفي وجهها وراء قناع من المساحيق، وأدت حركات بسيطة، يسندها راقصوها وراقصاتها. وفي اليوم التالي نشر رئيس اتحاد الكتاب في كوبا مقالا يشيد فيه بالمبدعة «التي ما تزال في أوج عطائها». مع هذا، ورغم كل المثالب التي ساقتها المؤلفة وبلغت فيها حد وصف أليسيا ألونسو بالشمطاء التي لا تحب سوى نفسها و«الكوبرا السوداء» التي تلدغ أعداءها، فإن القراء قد يخرجون من المطالعة متعاطفين مع الضعف البشري الذي يضطر صاحبه إلى تقديم التنازلات، ومع الفنانة التي كرمتها اليونيسكو، ومع الفراشة المذعورة التي واصلت التحليق واجتهدت لكي تظل باقية «وأعمار الطغاة قصار».