ثلاث نقاط يمكن التوقف عندها في تفسير حالة التسليم والرضا عند السوريين بدور خارجي ينقذهم مما هم فيه ويوقف العنف المتمادي في البلاد منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وهي حالة جديدة تناقض ما يعرف عن خصوصية وطنية تميز هذا الشعب وحساسية مرهفة تناهض التدخل الأجنبي في شؤونه. أولاً، انهيار الثقة بقدرة أي طرف على إنجاز حسم عسكري. فالسلطة، وعلى رغم «الانتصارات» التي حققتها مطلع العام الجاري في غير منطقة، تبدو عاجزة اليوم عن تحقيق الحسم الذي وعدت به مراراً، بدليل الوقائع الدامغة التي تظهر شدة ما تعانيه قواتها المدعومة من حلفاء متمرسين في الحفاظ على مواقعها، إنْ أمام «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» وإن أمام الجبهة الاسلامية وكتائب «الجيش الحر». وهؤلاء جميعهم يدركون عجزهم عن تحقيق تبدل نوعي في توازنات القوى، الأمر الذي يعزز الشعور بوطأة استمرار الصراع ويبرر الاستنجاد بقوة خارجية يصعب من دونها تغيير المشهد الدموي، أو تفكيك دور جماعات مسلحة تنتمي إلى طرفي الصراع بدأت تتحول إلى مراكز قوى لها مصلحة في ترك الجرح مفتوحاً لضمان استمرار سطوتها وامتيازاتها. ثانياً، تنامي حال الإنهاك والتململ عند السوريين مع تراجع شروط الأمن والحياة، ربطاً بغياب المسؤولية والمحاسبة وبانحسار ملموس في الخدمات الأساسية وآخرها الماء والكهرباء، وهي حال تتضاعف حدتها في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، حيث تغيب تماماً شروط العيش الآدمية وتتكاثر جماعات فاسدة أفادت من الوضع القائم لتبتز البشر بحاجاتهم الحيوية في ظل قصف يومي وحصار سلطوي لا يرحم. وإذا أضفنا تنامي الرغبة في الخلاص لمن أصبحت رقابهم تحت سيف تنظيم «الدولة الاسلامية»، ثم قوة الدوافع الإنسانية لمئات آلاف اللاجئين في بلدان الجوار ممن تزداد معاناتهم يومياً وتتردى شروط إقامتهم وحياتهم، ومثلهم النازحون والمعوزون والمشردون في طول البلاد وعرضها، يمكن أن نقف عند أعداد هائلة من السوريين باتت غير قادرة على الاستمرار في عيشها الراهن وتحبذ أي فعل خارجي ينقذها من محنتها المزمنة. ثالثاً، الأثر الإيجابي الذي خلفه التدخل الخارجي ضد تنظيم «داعش» في العراق، ونجاحه ليس فقط في فرض نتائج عسكرية على الأرض، بل أيضاً نتائج سياسية باشتراطه تشكيل حكومة جامعة، ما يثير بالقياس أملاً لدى السوريين بدور خارجي لا يقتصر على مواجهة «داعش» والعنف، بل يشكل مدخلاً لحل سياسي طالما انتظروه. استدراكاً، عندما يستعصي الصراع السوري على الحل أو الحسم، ويصبح منطق السلاح هو السائد من دون اعتبار لأرواح الناس وحقوقهم وممتلكاتهم، وعندما يبتلي المجتمع بنخبة حاكمة تتوغل أكثر فأكثر في الخيار الحربي، وبمعارضة سياسية مفككة لم تستطع الإمساك بزمام المبادرة أمام تقدم جماعات إسلاموية متطرفة تحاول فرض أجندتها على الناس، ولو كانت النتيجة تدمير تعايشهم واجتماعهم الوطني، وتالياً عندما تقف البلاد على مشارف المزيد من التدهور والهلاك وأمام نذير التحول إلى دولة فاشلة، عندها يمكن أن نتفهم مشروعية حضور رأي جمعي بات يحبذ ويبحث عن خيار خارجي ينقذ البلاد من أتون الفتك والدمار. وفي مقابل اتفاق غالبية السوريين على تدخل خارجي يساعد في تغيير المشهد المأسوي الراهن، تنهض مروحة واسعة من الاجتهادات والتباينات حول محتوى هذا التدخل والأشكال المفترض أن يتخذها. فثمة من يرفض مثلاً التدخل الذي يستجر قوات أجنبية إلى أرض الوطن، محبذاً السيناريو العراقي والاكتفاء بضربات جوية مركزة ضد تنظيم «داعش» لتسهيل مواجهته ورده. وبين هؤلاء من يدفع موقفه إلى نهاية الشوط داعياً الى إعادة النظر بالاصطفاف القائم من السلطة السورية بصفتها الطرف الأقل سوءاً وخطراً أمام الخطر الأشد الذي يشكله «داعش»، متخوفاً من أن يفضي إغفال ذلك إلى نتائج تهدد وحدة المجتمع وتماسك الدولة ومؤسساتها. وهنـــاك على العكس مَنْ يشترط على التدخل الــــخارجي مواجهة مركّبة ضد النظام وقوات «داعش»، لأن كـلاً منهما يستمد من عنف الآخر ذرائعه وقوته، وبغـــير ذلك تضيع عند أصحاب هذا الرأي فرصة إحداث تغيـــير سياسي حقيقي في البلاد، يضع حداً نهائياً للإرهــاب والتطرف، بينما يحلو لآخرين رسم حدود الدور الخارجي على مزاجهم الإيديولوجي. فمنهم مَنْ لا يمانع في حدوثه إن كــــان عربي الوجه واللسان، مبدياً دعمه الجامعة العربية والمـــبادرة المصرية الأخيرة لمعالجة الأزمة السورية، ومنهم مَنْ يرفضه إن تم من جانب الدول الأجنبية أو قوات الأطلسي منفردة، لكنه يقبله تحت المـــظلة القانونية للأمم المتحدة ومجلس الأمن، بخاصة إن ترافق مع ضغط جدي يفضي إلى تمرير حل سياسي في البلاد أسوة بما حصل في العراق. وتكتمل اللوحة بأولئك الذين بات التدخل الخارجي عندهم ليـــس مجرد خيار بل حاجة ومطلباً حيويين لوضع حد لمعاناتهم المتفاقمة ولإنقاذ وطنهم من الأسوأ، ما يفسر تكرار خشيتهم من أن تقتصر المواجهة الدولية ضد تنظيم «داعش» على العراق، ويتم التغاضي تالياً عن امتداده في سورية، فيمنح فلول هذا التنظيم فرصة تمكين وجوده مجدداً، ليزيد تفاقم الصراع السوري ونتائجه المريرة على الشعب ومستقبل أجياله. والحال أن ليس من صراع دموي عرف هذا الاستعصاء المزمن المثقل بالضحايا والخراب والمشردين كالصراع السوري، وليس من شعب كالشعب السوري وصلت مأساته بسرعة قياسية إلى هذا العمق والاتساع، وليس من لحظة مفصلية تلح فيها حاجة السوريين الى إنقاذ اجتماعهم الوطني أكثر من اللحظة الراهنة... وليس من بلد كسورية نضجت فيه الدوافع الأخلاقية والسياسية لدور ناجع يوقف العنف المفرط ويفتح الباب أمام خطة للتغيير السياسي، تنسجم مع المعايير الدولية لحقوق الانسان والقواعد الديموقراطية التي تمكّن هذا الشعب المنكوب من تقرير مصيره.