قد يرى البعض أن الرئيس الأمريكي أوباما "متردِّد"، أو "عاجز"، أو حتى "غير راغب" في تحمّل مسؤوليات رئيس القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، إزاء تهديدات إرهاب داعش، ومع هذا البعض، بعض الحق، فالرئيس الأمريكي الذي أشعل حماس العالم لترقب خطابه في الذكرى الثالثة عشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، فيما يطل الإرهاب بوجه أكثر قبحًا على العالم، لم يبدُ حاسمًا بما يكفي بنظر البعض لدى إعلان ما قال عنه إنه "إستراتيجية لهزيمة داعش"، وبدت القوة الأمريكية "متردِّدة" على أقل تقدير، تحت وطأة الخوف من التورط في مستنقع حرب طويلة، لكن مهمّة أي قائد في لحظة صراع وجودي هو أن يقود فريقه إلى انتصار حاسم، فهل تستطيع إستراتيجية أوباما التي أعلن عنها قبل ساعات أن تقود أمريكا وقوى التحالف الدولي إلى انتصار -لا يجوز إلاّ أن يكون حاسمًا- في الصراع مع داعش ومن معها، أو مَن وراءها من جماعات وقوى الإرهاب؟! تتحدث إستراتيجية أوباما عن أربعة محاور رئيسة هي: - أن أوباما لن يرسل قوات عسكرية إلى الشرق الأوسط لقتال داعش. - أنه سيأمر بتنفيذ سلسلة من الهجمات الجوية ضد داعش. - أنه سيُرسل 475 عنصرًا إضافيًّا من القوات الأمريكية لتدريب القوات العراقية، والعمل مع شركاء واشنطن لوقف تنقل المقاتلين المتطرفين من وإلى منطقة الشرق الأوسط. - أنه طلب من الكونجرس الأمريكي سلطات إضافية لتسليح قوات المعارضة السورية، وتدريبها لمواجهة خطر داعش. تلك هى محاور "إستراتيجية أوباما لمواجهة داعش"، وكما يبدو فإنها لا تشير -كأي إستراتيجية- إلى هدف حاسم ونهائي، ولا تتضمن -كأي خطة- برنامجًا زمنيًّا للعمل، ولهذا يبدو وكأن الرئيس أوباما قد جعل أهم أهدافه على الإطلاق هو "عدم التورّط في حرب طويلة"، ما قد يعيد إلى الأذهان ذكريات تورّط واشنطن في حرب طويلة بفيتنام، بدأت تقريبًا في عهد رئيس ديموقراطي "كيندي" بذات السيناريو، خبراء عسكريين لتدريب قوات سايجون، وضربات من الجو لمواقع فيت كونج، وانتهت بنزول الأمريكيين على الأرض، لخوض حرب طويلة أنهاها رئيس جمهوري "نيكسون" بالانسحاب، مع فروق جوهرية بالطبع بين الظرفين الدولي والأمريكي في الصراعين، حيث كانت الحرب الباردة على أشدها بين الاتحاد السوفيتي، وبين الولايات المتحدة، وحيث كانت واشنطن تخوض الصراع لأجل هدف إستراتيجي تحقق لاحقًا بهزيمة موسكو وإسقاط الشيوعية. إستراتيجية أوباما لمواجهة داعش، تُعبِّر عن مأزق قائد متردِّد عند منعطف تاريخي، فهو لا يريد الخروج من التاريخ بذكريات مؤلمة لشعبه، ولا يستطيع الولوج فيه بقدمه اليمنى، بقرار يعكس خيارات حاسمة، ومع ذلك فتلك الإستراتيجية تنسجم تمامًا مع الخط العام لسياسات أوباما، الذي تسلّم الرئاسة من بوش الابن، بلد مثخن بجراح حربين في أفغانستان والعراق، ومحمّل بأعباء اقتصادية ثقيلة زادتها الأزمة المالية العالمية تفاقمًا في عام رئاسته الأول. تجنّب التورّط المباشر في الصراعات الكبرى، مع الإصرار بذات الوقت على الاحتفاظ بزعامة منفردة للنظام الدولي، بدت ولا تزال معادلة عصيّة على الحل، وإن حاول أوباما حلّها عبر مبدأ "القيادة من مقعد خلفي" إبّان اشتعال الصراع في ليبيا لإسقاط القذافي، ثم عبر مبدأ "الشراكة الأمامية إبّان اندلاع الصراع في سوريا للإطاحة بنظام بشار الأسد"، لكن التاريخ لا يعرف أمّة قادت النظام الدولي بالريموت كنترول، ولا ربحت الحرب بطائرات الدرون. مشكلة أوباما الثانية، أن العالم لم ينهِ بعد فترة الفطام من الزعامة الأمريكية، فهو يتطلّع دومًا إلى قرار حاسم من واشنطن، وإلى التزامات قاطعة منها، قابلة للتحقق، فيما لا تملك واشنطن "قدرة كاملة" على الحسم ميدانيًّا في ظرف دولي متغيّر، بينما لا تبدو مؤسسات القرار بها قادرة بعد على الحسم "سياسيًّا"، ومع ذلك وبرغم ما قد يبدو من رهان أمريكي على قدرة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة على كسب الصراع وحسمه لصالحه، وهذا ما يبدو مؤكدًا بمنطق الحساب، فإن تعاظم دور الشركاء في التحالف على الأرض لا يخلو من إيجابيات، ليس أقلّها أن مصالح الشركاء ستظل دومًا بعين الاعتبار، بمقدار ما يقدمون على الأرض من مساهمة بالقوة، أو بالدعم لكسب الصراع وطرد داعش من التاريخ. وهذا ما يعكسه تأكيد أوباما على ضرب داعش في سوريا، وعلى اعتبار مهمّة تدريب وتسليح المعارضة السورية جزءًا من إستراتيجيته، في إشارة واضحة لحلفاء واشنطن العرب إلى أن البيت الأبيض سيبذل قصارى جهده، حتى لا تجني طهران ثمار الحرب الدولية على داعش، لكن هذا الالتزام الأمريكي يتطلّب مزيدًا من العمل لتحجيم نفوذ طهران في العراق، الذي تخلو حكومته الجديدة برئاسة عبادي حتى الآن من وزيرين للدفاع والداخلية بسبب "فيتو إيراني" على تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. إستراتيجية أوباما تشير إلى حرب طويلة بالمنطقة تقودها واشنطن من الجو، ويخوضها حلفاؤها على الأرض، ويعرف أطرافها أن أوباما الذي وضع الإستراتيجية لن يكون موجودًا في البيت الأبيض عند لحظة إعلان الانتصار النهائي ضد داعش، لكنها تمثل رغم كل هذا لحظة فاصلة ليس في تاريخ المنطقة، حيث تصعد قوى إقليمية جديدة إلى مراكز التأثير، وحيث تتغير خارطة التحالفات الإقليمية، وإنما أيضًا في تاريخ العالم، حيث تفسح واشنطن حيزًا إلى جانبها في موقع القيادة لشركاء بدوا أشد عزمًا وأصلب إرادة في لحظات الحسم التاريخية. moneammostafa@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain